كوابيس جوع سابق

1
هذا الصوت المسرع على الدرج مألوف جداً، أكاد أستطيع تمييزه من بين آلاف الأصوات
دقة الباب القوية التي غالباً ما تترافق مع صوته تحسم الأمر
“افتح يا خطيب” ينادي بصوته الجهوري
يطل الناجي بطاقيته المميزة التي يخفي تحتها رأساً خالٍ تماماً.. حتى من الوبر.
كان يحمل في يديه كيساً ما، كما كان يفعل في كل مرة يغادر فيها للبحث عن أي شيء صالح للأكل، ولكنّ حجم الكيس هذه المرة أكبر من المعتاد بكثير … لدرجة أنني غامرت و سمحت للشعور بالفرح أن يظهر على وجهي، فمنذ زمن لم نأكل وجبة كافية بسبب الحصار الشديد …
أرحب به : .. ” الله حيو عمي الناجي”
فراس الناجي الذي اغتالته رصاصة غادرة في شقته و اغتالت معه أجمل ما في الحصار كما اغتالت حتّى الأمان الذي كان يثيره مجرد وجوده بيننا
سألته مسرعاً ” شو جايبلنا معك ياطيب”
يجيب وهو يضحك بصوت مرتفع وبلامبالاته المعتادة
“صبارة”
أبادله الضحكة ثم أعيد السؤال بطريقة أخرى أملاً بإجابة مختلفة
عم تتخوت اكيد، مو ناقص غير إنو ناكل صبارة!
يجيب مؤكداً دون أي تردد ” أي ولله ” ثم يبدأ بسرد قصة الصبارة ومن أين حصل عليها وكيف سيتمّ طهيها
يبدأ جميع المتواجدين في المكان صدفة أو اتفاقاً بالتنفيذ مباشرة، لا وقت للنقاش فالجوع كاد يقتلنا
بيت واسع بمطبخ يشرف على الصالون مباشرة، صوبية الحطب في الزاوية المقابلة للمطبخ، وشمعتان بالكاد كانتا تستطيعان إضاءة نفسهما، صوت خفيف يصدر من راديو قديم معلق على الحائط
كانت فيروز تغني “يا رايح عا كفر حالا” يتسرب من منتصف صوتها صوت المذيعة في شام إف إم ترمي تحية المساء “مسا الخير يا زبداني”
أخذ قصي فرحاً بتثبيت كاميرا من أجل توثيق العملية، ليبدأ فراس شرح مراحل تحضير هذه الوجبة، جميعنا كان يلهو بأيّ شيءٍ، فرحين بسبب وجود الطعام أو ربما بهدف التحايل على أجسادنا لتقبل ما سوف نأكله لمجرد أننا أسميناه “طعام”
ننتهي من المرحلة الأولى في دقائق معدودة وهي محاولة استخراج لبّ الصبارة -الغير موجود أصلاً- من ألواح الصبارة المتخشبة، ثمّ نضع المواد المستخرجة على الببور النحاسيّ
نجلس بالقرب من بعضنا البعض أمام المدفأة تماماً، ننتظر نتيجة الطعام بفارغ الصبر
يضحك فراس:
“انشالله تطلع أطيب من شوربة البهارات”
لا ينتابني أي شك بخطأ نبوءته، التفتّ إليه، كان الألم يغطي ملامح ابتسامته الساخرة، هو أيضاً لم يصدق ما يقول، لكن لا خيار أمامنا، يجب أن نأكل
أحمل الطنجرة السوداء بفعل البابور، وأحضرها نحو الجميع المتوقع مسبقاً ماذا ستكون النتيجة، بدأت بسكب خليط الصبار في صحن زجاجي، بينما كانت الخيبة تلوح على وجوه الجميع
بدأنا بتناول الطعام بالملاعق بإيقاع دأبنا على ممارسته منذ الوقت الذي توقف فيه الخبز عن الوجود على موائد الطعام
صمت كصمت المقابر يخيم على هذه الوليمة
“يلعن كل شي ” أقولها بهدوء شديد دون أن أرفع رأسي و دون حاجتي لأي رد و أستمر بالأكل
ينتهي رضوان.. وسيم.. وقصي من الطعام، ثمّ ألحقهم أنا وفراس
” الحمد لله رب العالمين اللهم ديما نعمة علينا يارب ” يقول رضوان
يردّ وسيم بعصبية لا تخلو من الجدّ ” لا سيدي، الله لا يديمها نعمة علينا يا رب ”
نضحك جميعاً بصوتٍ مرتفع و الخوف بادٍ في أعيننا من الغد
2
كلّكم سمع كلاماً كثيراً عن الجوع و أنا مثلكم ولكنّي لم أكن أصدق معظم ما كان يروى عن هذا الشعور، حتّى صار أن اختبرته
كانت تلك الليلة الأصعب طوال ليالي الحصار والأكثر ألماً، أصوات الجياع ملأت المخيم بالعويل، صراخ الأطفال يضج أينما توجهت في أرجاء المخيم
المجاعة:
تلك المفردة التي طالما امتلأت بها نشرات الاخبار عن مناطق بعيدة في هذا الكوكب، ماثلة الآن أمام أهل المخيم بكامل وحشيتها المستحيلة على الوصف، هذه المجاعة التي أتت حتى الآن عن أكثر من مئة شهيدٍ بسبب الجوع
الظلام في كل مكان، و البرد أشدّ من قدرتي على التحمل، شعورٌ عارمٌ بالقهر والحقد على الحالة التي وصلنا لها، وعلى كلّ شيء
لكن لا وقت للانتقام، نريد فقط أن نأكل، ولا نريد أيّ شيء آخر
أفتش في كلّ زاويةٍ في المنزل على ما يمكن تناوله، أيّ شيء أيّ شيء، مع علمي المسبق –نتيجة لمحاولتين سابقتين- بالفشل في العثور على شيءٍ تقبل المعدة أن تهضمه
وكما طفلٌ يريد أمه بدأت بالبكاء، لم أكن أتوقع أن أبكي بسبب الجوع رغم أنّني شاهدت الكثيرين قبلي يبكون في الشوارع جوعاً وطلباً للطعام، أصل حدّ اليأس في إيجاد شيء آكله
أفكر للحظة “لماذا حرّم الله الانتحار”
غشاوةٌ ترمي بنفسها على عينيّ، أتحامل على قدميّ من جديد، و أمضى نحو بناءٍ مجاور في محاولةٍ أخرى للبحث هناك، كان الأمل منعدماً في إيجاد أيّ شيءٍ لكنّ المحاولة كانت ضروريةً فقط من أجل تخفيف الألم الذي يسببه وحش الجوع القابع في الأحشاء
أصعد الدرج مسلطاً ضوءاً خافتاً على درجات السلم الممتلئ بالتراب بعد أن سقطت قذيفة هاون على هذا البناء قبل مدة قصيرة من الزمن، أقف أمام الباب المفتوح على مصراعيه ممتلئاً بالخيبة، قدماي وعقلي يرفضان الدخول، لقد بحثنا في هذه الشقة أكثر من مرّة ولم نجد شيئاً، أقرر الخروج من البناء ثمّ افكر بالصعود الى الطابق الأخير “الملحق” الذي أضحى بلا سقف بعد سقوط القذائف، أتحامل مرة أخرى على قدميّ نحو السطح الذي تحول إلى ملحقٍ و من ثمّ وبفعل قذيفة طائشة، عادت الشمس لتنير هذا السطح بعد تكفّل رامي الهاون بإزالة كلّ ما تمّ بناؤه، كانت الريح تصفر و كانت أشعةٌ شاحبةٌ للقمر تتناثر على الركام
وكنت أبكي جوعاً
انشغلت بالتفكير عن الجوع بالتفكير كيف كان هذا المكان يبدو قبل أن يدمر، هنا كانت غرفة النوم وهناك على اليمين كان الحمام الذي لم يكن قد اكتمل بالسيراميك لحظة سقوط السقف كما يبدو، كانت مواد البناء لاتزال مجمّعةً في زاويةٍ من المكان المعدّ ربّما ليكون المطبخ، الدهان الذي سال من سطلٍ مثقوبٍ على الرخام قد جفّ من فترةٍ ليست بالقصيرة، وبالقرب ابريق شايٍ مع بقايا السكر المتناثر على الارض، رائحةٌ نفاذةٌ خرجت من عبوةٍ بلاستيكيةٍ كانت مليئةً بالنفط الذي يستخدم لمزج الدهان كانت متروكة على المجلى و على الجهة الأخرى كان هناك مرطبان من البلاستيك تناثرت بالقرب منه بضع حبات زيتونٍ جافةً
اقتربت أكثر من المرطبان وتناولته بيديّ الاثنتين ثمّ أخذت أقلّب محتوياته جيداً، كان مليئاً بسائل رماديّ آسن تسبح فيه قطع صغيرة بلونٍ أسود ورغم الرائحة الواخزة التي خرجت منه عندما فتحته، لكنّي وصلت إلى اليقين أنّه مخلل خيارٍ قديمٍ جداً رغم رائحته النتنة، السعادة التي غمرتني في تلك اللحظة سعادةٌ تشبه سعادة طفلٍ صغير وجد أمه بعد ضياع.
أغسل محتويات المرطبان المهترئة وأقرر أن أقليها بالزيت كي أخفف من سوء الطعمة ثمّ
أبدأ بتناول الطعام المالح، المالح جداً بفعل الدموع وليس الملح
كنت أبكي من كلّ قلبي ……