عيد الحب المخيمجي
بالقرب من شارع اليرموك في ذلك المكان الذي اعتدنا الوقوف فيه كلّ صباح تقريباً، تماماً على سوكة شارع المدارس نقف هناك متأملين وجوه المارة بفضول، مصابين معاً بعدوى سؤال وحيد يدور في عقول الواقفين جميعاً:
ما حجم البؤس الذي يحمله هؤلاء البشر في أحشائهم!!
كم من الحزن والهمّ يملأ قلوبهم حتّى غدت وجوههم عابسة لهذا الحد!
سواد الشحار المنبعث من حرق كلّ ما يمكن اشعال النار فيه يعتلي وجوه الأغلبية و أياديهم، كدليلٍ إضافي على فصول الحصار، إكتساء ملامح أهل المخيم سمرةً مائلة للسواد، شكّل دليلاً آخر عن حجم الموت المتسلل عبر الحواجز، تلك ذاتها التي تمنع حبة قمحٍ من دخول المخيم.
من ثلاث إلى خمس، هذه هي الحصيلة اليومية لضحايا الجوع، أغلبهم من كبار السن الذين نجوا من فصول النكبة والنكسة وعدّة حروب أخرى كان آخرها حصار المخيم، معركتهم الأخيرة التي لم يستطيعوا النجاة منها، فسقطوا على يدّ عدو مختلف هذه المرة، عدوّ قريب، ولدته أمك.
لسبعة أشهر كان هذا المشهد اليوميّ يتكرر بطريقةٍ توحي أن غداً سوف يكون أسوأ من سابقه، كان الجوع نذير شؤمٍ للموت المتربص بوجوه الرجال، تلك الوجوه التي ما انفكت تزداد سواداً في كلّ يومٍ عن سابقه.
و في ذلك اليوم تحديداً الموافق لما كان يطلق عليه سابقاً عيد الحب شاهدنا من نفس الزاوية التي اعتدنا الوقوف فيها كل يوم نراقب البشر، نفس الزاوية التي كانت فيما سبق من أيام غابرة تمتلئ بباعة الورد الأحمر.
في ذلك اليوم تحديداً كان المشهد مختلف;
كان شاب عشريني مع امرأة مقعدة على كرسي متحرك، تدّل ملامح الشفقة في عينيها نحوه – بوضوح لا يخطئه القلب – أنّها أمه
ثيابهم رثّة حتّى أنك تشك بأنهم قادمون من زمن لا وجود له، كان الشاب نحيلاً بقامة ضامرة ويدين سوداوتين لدرجة تعجز فيها عن تمييز قبضة يده المتشبثة بقبضة الكرسي السوداء لوالدته, أخذت عيونهم تحدق بنا بطريقة لاتدع مكاناً للشك أنهم يطلبون شيئاً ما، اختلطت نظراتهم الحائرة بشعور العجز الذي فاح منّا و استقر على وجوهنا
غيمة مليئة بالأسى خيمت فوق هذا المشهد…
أكمل الشاب طريقه تاركاً أمه خلفه في الزاوية المقابلة لنا تماماً، ببطئ شديد و بترنح غير مقصود كانت خطوات الشاب المنهكة تسير نحو غاياتها على بعد أمتار قليلة، خطواته أثقلت قلوبنا فيما توجهت عيون الجميع نحو (حاوية النفايات) وجهته الأكيدة…
ما إن وصل هناك حتى اتكئ بكف يده اليمنى على حافة الحاوية و من ثم انحنى بجسده حتى يكاد أن يختفي رٍأسه داخلها، لينتصب بعد ذلك ملتفتاً على أكوام القمامة المتناثرة حول الحاوية، كرر الانحناء والوقوف عدة مرات في رحلة للبحث عن شيء كنا نشك نحن بوجوده، ففي زمن الحصار تعلم البشر الاحتفاظ بكل شيء قد يصبح له قيمة بما فيه القمامة، استمر الشاب بالتنقيب بكل ما هو مرمي تحت قدميه، ومن ثم استقرت عيناه على مرطبان بلاستيكي مكسور كنّا جميعاً نعرف ما بداخله، بعد أن أغرى هذا المرطبان ذاته العديد من زوار حاوية القمامة ذاتها
كان العديد ممن سبق هذا الشاب يتعثرون بالمرطبان وبمجرد الاقتراب منه يميزون رائحة العفن الواخزة الصادرة عنه فيركلونه بأقدامهم لتتناثر بعض من محتوياته.
وحده هذا الشاب حمله بين يديه و أخذ يتأمل بقايا الزيتون المختلط باللون الفيروزي للعفن بداخله.
ترتسم على ملامحه ابتسامةٌ أقرب ما تكون لدمعة
لازالت الأم في مكانها على الكرسي، عيناها مغمضتان من الجوع ويداها ترتجفان بطريقة آليّةٍ دون وعي، يعود الشاب إلى أمه
رحلة الأمتار القليلة نحوها كانت طويلةً علينا حدّ الموت، شريط طويل مليء بصور المخيم و تاريخه وبما وصلت إليه الأمور يسير أمام عيني فيتخدر عقلي ويتوقف عن العمل; كيف للمخيم أن يحمل كل هذا الموت ولماذا ؟!!
كانت يده اليمنى تحنو على خد أمه و يده اليسرى تحيط بالمرطبان، كنزه الثمين .
لم نعد قادرين على الاحتمال، سيارةٌ عابرة تحجبهم عنّا لأقل من ثانيتين، غيرتا المشهد.
كان الشاب يمسك في يديه بعلبة مرتديلا صغيرة الحجم، يفتحها، ويطعم والدته منها – خمنّا أنّه قد أخرجها من الجيب الداخلي لمعطفه المهترئ – أمه ترجوه أن يأكل معها وهو يصر على أنّه غير جائع، يستمر الشاب في إطعام والدته، ابتسامة منكسرة مرسومة على وجهها، ينتهي من إطعامها، يفترش الأرض قرب والدته ثمّ يرمي علبة المرتديلا الفارغة، نسمع بوضوح صوت ارتطام المعدن بالإسفلت قبل استقرار العلبة الفارغة في منتصف الشارع ويعود ليحمل المرطبان الفارغ في يديه يتمعنه جيداً ثم يمدّ أصابعه السوداء ويبدأ بالتقاط حبات الزيتون بفرح الأطفال
الدموع ملء عيوننا دون أن ننتبه
تعود السيارة العسكرية مرةً أخرى وتحجب عنا الرؤية لثانية واحدة، يرخي الابن رأسه في حجر والدته وينامان بهدوء لا ينتمي لصخب المخيم
كان هناك في تلك الزاوية الكثير من الحزن والأسى من الجوع والفاقة والذل
كان هناك الحب أيضاً
الكثير الكثير من الحب
الصورة من موقع (حكاية ما انحكت)