عيون مملوءة دماً و حقد

المنزل
كانت الساعة الثالثة صباحاً حين اقتحم المنزل عشرة مسلحين ضخام الجثة، توجهوا فورا نحوه في غرفة النوم
لم يفسحوا له الوقت حتى لفرك عينيه ليدرك ما يجري حوله، رموه أرضا، ثم انهالوا عليه بأعقاب بنادقهم الآلية تاركين بركة من الدم الأحمر الذي انفجر كنافورة من رأسه، لم يمتلك أحد من الجيران الجرأة الكافية لفتح النوافذ لمعرفة سبب هذا الصراخ المحشو بالحقد الصادر عن هؤلاء الرجال الملثمين المتشحين بالسواد و الذي اختلطت فيه الشتائم القذرة بصرخات الله أكبر، لقد تحول مخيم اليرموك إلى مكان لصناعة الرعب والخوف منذ استوطن هؤلاء الغربان السود شوارعه.
كانت الدماء تسيل من كل خلية في جسده من شدة الضرب الذي انهال عليه مجرجراً أمام أعين والديه نحو سيارة سوداء لا تشبهها سوى سيارات المخابرات السورية المهترئة، حاولت والدته تحرير ولدها من بين أيديهم بعدما فشلت محاولاتها بتقبيل أقدامهم لكن ضربة بعقب إحدى البنادق في وجهها كانت كفيلة لطرحها أرضاً بلا حراك، رموه في صندوق السيارة وانطلقوا به إلى مكان مجهول، وعلى الفور تجمع حول جسد المرأة الملقى أرضاً جميع الجيران الذين لم يكونوا سوى أبو العبد وزوجته العجوز بعد أن تكفلت الحرب بقتل وتشريد معظم سكان المخيم، حيث لم يبق في الحارة الواحدة سوى عائلة أو اثنتان في أحسن الأحوال.
الفرع 3
تكفّلت الصفعة الأولى بالكبل الرباعي المرافقة لصوت أذان الفجر بعجن معالم الوجه أمّا الضربة الثانية فقد حوّلت جسده النحيل لكومة ركام، استمرت حفلة التعذيب الوحشي هذه حتى شارف على الموت ولم يقطعها سوى صوتٌ جاء من خلف باب الزنزانة مخاطباً الجلاد:
_تفضل شيخ صار وقت صلاة الفجر
_الله يجزيك الخير، يا الله جاي وراك، دقيقة اخلص من هل الكافر اللي بين إيدي
_ الله يقويك; ما بتقصر، الله يجعل دم ها الكافر بميزان حسناتك
التفت الجلاد الشيخ إلى الجسد الملقى أرضاً وبمقدمة حذائه ركله في منتصف وجهه تماماً فتطاير الدم من أنفه وفمه كما لو أنه ديكٌ مذبوح همهم همهمة خفيفة ثم سكن تماماُ، ضغط الجلاد مقدمة حذائه ببطن الجثة الهامدة أرضاُ ليمسح الدم عنها ثم خرج إلى الصلاة مغلقاً الباب خلفه بعنف متمتماً بصوت يكاد يسمع: كافر
الشيخ المحقق
“اركع على ركبك يا حيوان، أجى الشيخ يحقق معك ”
حاول الشاب بشتى الطرق تحريك جسده ولكنّه فشل تماماً، لم يستطع حتّى أن يرفع رأسه ليعرف المكان الذي جلس فيه الشيخ
” جلسوه وخلوه يركع”
انتزعه من تحت إبطيه شخصان حاولا أن يضعاه على ركبتيه لكنه لم يستطيع الثبات فانهار أرضاً، شعر في تلك اللحظة بأنّ ملاك الموت يسلخ روحه ببطء عن جسده، لم يستطع تذكر كم من الوقت الذي قضاه مغمياً عليه و لم يستطع حتى تذكر اليوم الذي أحضروه فيه هنا، كان عقله مثبتاً حول جسد إمه الذي تركه ملقى خلفه في الشارع
حاولوا مرة ثانية وضعه على ركبتيه لكنه انهار من جديد، حاولوا مرة ثالثة
_ اتركوه عا الارض، مو مشكلة، قال الشيخ مقترباً منه ثم سأله بهدوء وهو يضغط بحذائه العسكري على ذقنه محاولاً إدخال مقدمة الحذاء في فم الجثة الملقاة أرضاً
_احكي لي مع مين بتتعامل من الجيش الحر و شو المعلومات الي وصلتها الهم؟
فاجأه السؤال… أفكار كثيرة اخذت تدور في رأسه
أين سمع هذا الصوت ؟
لماذا هو هنا أصلا؟
من هم هؤلاء!! كان يعرف تماما من هم ولكن عقله استمر يردد هذا السؤال؟
هل المكان المعتقل فيه داخل المخيم؟ مدرسة؟ مشفى ؟ جامع؟ هذه الغرفة جزء من ماذا؟
لم يخرجه من دوامة الأفكار التي تعصف برأسه سوى ضربة عصا قصمت ظهره نصفين و
دفعته رغماً عن أنفه بأن يصرخ بأعلى صوته من شدة الألم
_ والله يا شيخ انا ما بعرف شي وما بتعامل مع حدا
_ كذاب، صفحتك على الفيس بوك كلها منشورات مؤيدة للثورة والجيش الحر وكمان حاطط راية الكفار على صفحتك (علم الثورة )
_هدول زمان، زمان كتير، قبل ما تحتلوا المخيم
صفعة مفاجأة ارتطمت بأعلى رقبته جعلته يعيد الاجابة
_ قصدي وقت حررتوا المخيم
_ بكل الأحوال طلع الحكم الشرعي عليك، جزاءك النحر يا كلب المرتدين، اعترافك وعدمو واحد، ومالك توبة لا بالدنيا ولا بالآخرة يا كافر
“هذا شيخ ولا لله” اخترقت هذه الفكرة برأسه كسهم
خرج الجميع من الغرفة إلا الجلاد، عبثا حاول التأمل في ملامح وجهه، كان شاباً في متوسط العمر، تخيل أنّه كان يعرفه، ربما كان يمشي قربه في شوارع المخيم، يصعد معه نفس الباص وربما قد درسا معا في مدرسة واحدة، تجرأ وسأله هل التقينا من قبل
كان هذا السؤال وحده كفيلا بجعله يتلقى رفسه في بطنه جعلته يتقيأ أمعاؤه دماً أتبعها الجلاد بأخرى على رأسه ثم أمسكه بقبضة يده من ياقة قميصه المغسول بالدم واقترب برأسه منه قائلاً بصوت خفيض
_ هلق ما بقي غيري وغيرك، والله لربي الكوكب كلو فيك و أنا علي منصور يا حيوان
فعل الاسم في رأسه مفعول المنبه الذي أعاد جميع خلايا دماغه فجأة للعمل، نعم تذكره جيداً، هو ذاته الشاب علي منصور الذي كان يدعي الشيوعية والمنتسب للجبهة الديمقراطية اليسارية سابقا، هو ذاته الشاب الذي قيل أنه تعرض للاغتصاب عندما كان طفلاً في بساتين شارع الثلاثين، لمعت في عينيه إشارة المعرفة فحاول جاهداً أن يسأل شيئاً لكن ما إن تحركت شفتاه قليلا حتى عاجله ذلك الجلاد بضربة عصى على رأسه أرخت سواد الليل على عينيه ليغيب عن الوعي طويلاً
الإعدام
عندما فتحوا باب الزنزانة دخلت مع دفقة الضوء وهبة الريح أيضاً ضجة الشارع الذي بدا وكأنه كان أسيراً أيضاً خلف الجدران الإسمنتية، فاستيقظ مذعوراً
كان لا يزال يرمش مشوشاً مصارعاً أشباحاً غير مرئية تتراقص أمام عينيه، محاولاً استعادة ملامح أمه علّها تمنحه بعض السكينة حينما لمح شبح الجلاد ذاته مستنداً إلى باب الزنزانة يتأمله بجفاء وكره مبالغ فيه بوجهه المدور المترهل من كثرة الشحوم
هذا الرجل سيختنق إذا لم يقتلني بيديه -أخذ يفكر دون أن تقوى شفتيه على الابتسام-
“صار وقت الاعدام ” قال الجلاد شامتاً مفاخراً
“خدوه ولبسوه البدلة البرتقالية”
وأشار بيده لمسلحين كانوا يرافقونه لتنفيذ الحكم
سحب المسلحون الجثة الهامدة إلى مكان تنفيذ الجريمة -الإعدام- كما تسحب الشاة إلى مقتلها، لم يخبروا أمه بموعد تنفيذ الحكم ولم يسمحوا له بتأدية صلاة أخيرة، أجثوه على ركبتيه فسقط أرضاً، لكنه تحامل على جسده هذه المرة كي ينتصب ظهره أمام جلاديه،
كان عشرة مسلحين ضخام الجثة متشحين بالسواد يحيطون برجل قطع التعذيب أوصاله، أعزل مكبل اليدين إلى الخلف وكان رجل آخر لم تنقض فترة طويلة منذ أن كان يترنح ثملاً في شوارع المخيم يحمل سكيناً في يده لينفذ حكم الذبح فيه بتهمة الكفر
و كانت شوارع المخيم شاهدة تراقب و تتذكر وتتوعد أيضاً
أمسك علي منصور شعر رأس الجثة التي انتصبت فجأة وسط غابة من السواد و حزّ رقبتها بسكينه بيده الأخرى المرتجفة
تناثر الدم من جسد الضحية المنتصبة كما تنثر الشمس أشعتها في صباح يوم صيفي، سقطت الجثة كشجرةٍ تكاثر الحطابون على ساقها الصلب فيما تفرق المسلحون حولها زائغي الأبصار
وبقي الجلاد صاحب الطريقة الايمانية الجديدة يراقب دم الضحية المقيدة المتناثر على يديه، شيء ما خطر في باله جعله يبدأ التكبير وحيداً فوق الجثة الشجرة و ما لبث أن أخذ بقية الرجال زائغي الأبصار يرددون التكبير وراءه، كان هتاف الله أكبر يعلو من أفواههم رويداً رويداً محاولين ايصال صوتهم لأبعد مدى يستطيعون، ربما كانوا يحاولون بصوتهم الهستيري بث الرعب في قلوب من بقي من البشر، وربما كانوا يحاولون إقناع الله بأنهم حقاً يقتلون من أجله
حملوا الجثة والرأس ووضعوها في قفص وسط المخيم
الرأس
وصل الخبر لأمه التي انهارت دفعة واحدة، اختنق صوتها و كأنّ سكيناً غُرزت في حنجرتها ومنعتها عن الصراخ، غابت الدموع عن عينيها و خرجت تركض حافيةً في الشوارع تبحث عن جثة ابنها المقطوع الرأس، لم تسأل أحداً ولم تكلم أحداً، بقيت تجري وحدها والناس حولها، لم يقترب منها أحد هذه المرة، ليس بسبب الخوف وحده ولكن جميعهم كان يشعر بالخزي والعجز، جميعهم مدرك أنه لا شيء ممكن للعزاء، لم يبق من معنى لحياة أو لوطن أو لأي شيء، وصلت الأم جثة ابنها المقطوع الرأس، عرفت مكانه من القفص الحديدي المزروع منتصف الشارع، من الرجال المتشحين بالسواد المحيطين بالقفص، لم يكن من أحد قرب جثة ابنها غيرها وغير هؤلاء البشر المتوحشة زائغي العيون، جميع الناس ابتعدت عن مرمى نظراتها الدامية، جميع الرؤوس مطرقة أرضاً عدا هؤلاء الوحوش يتقدمهم جلادهم مترهل الوجه محدث الايمان، اقتربت أكثر ثم امسكت قضبان القفص الحديدي محاولة ادخال جسدها ورأسها نحو جسد ابنها فلم تستطع، حالت هذه القضبان بينها وبين من كان ذات يوم قطعة من جسدها، خلعت حجابها ولفته على يدها ثم بدأت تطرد الذباب الذي بدأ يتجمع على جسد ابنها و رأسه المقطوع، كان بكاء صامتاً يسيل من وجوه الجميع، وكانت تقرأ القرأن
وكان القتلة المتشحين بالسواد يجولون بعيونهم الزائغة في وجوه البشر الباكية بصمت، وكان الجلاد المترهل الوجه يكز بأسنانه حقداً
حاول الجيران عبثاً اقناعها بالعودة إلى منزلها لكنها رفضت، بقيت يومين كاملين تقوم بنفس الشيء بطرد الذباب عن عيني ابنها دون توقف حتى جاء إذن خلافة المسلمين بدفن الجثة، وحين فتح باب القفص الحديدي اندفعت بكل ما تبقى من جسدها المتعب داخله، لم يحاول أحد من القتلة الوقوف في طريقها هذه المرة، أمسكت رأس ولدها و بين يديها واحتضنته وقبلته، مسّدت بيديها المغطاتين بالدماء شعر رأسه ووجنتيه ثم بدأت بمسح الدم المتخثر حول عينيه، أخذ نحيبها يعلو رويدا رويدا، خبأت الرأس في صدرها، خبأته كما كانت تفعل حين كان طفلا يركض نحوها، كما كانت تفعل حينما كان رضيعاً يطلب الطعام، تذكرت ملامحه حين كان يغفو على صدرها وبدأت تغني له بصوتها المخنوق بالدموع
يا الله تنام
يا الله تنام
لادبحلك طير الحمام
روح يا حمام لا تصدق
بضحك عا أحمد لينام
كان الجلاد واقفا يراقب المشهد، و كان الجمع صامتا، وكان غراب على سطح بناء، انقض إلى بقعة دم متخثرة فوق التراب و بدأ يحفر بمخالبه
نظرت الأم نحو الغراب
عادت بنظرها إلى رأس ولدها بين يديها
نظرت نحو السماء
استندت إلى جدران القفص و وضعت الرأس في حجرها
ثم نامت ……