ذاكرة حصار

مذكرات شاهقة من مدينة الفنتازيا الواقعية “حصار حلب”1

مذكرات شاهقة من مدينة الفنتازيا الواقعية

“حصار حلب”

الجزء الأول

 

اليوم جمعة

كالعادة يتجهّز الرجال صباحاً لحضور خطبة الجمعة وأداء الصلاة، والجارات يجلسن بشغف لاحتساء القهوة وتبادل الأحاديث، التي تحمل طابع النميمة والغيبة، والتشكّي في أكثر الأحيان، والطيران غالباً لا يغادر السماء.

في هذا اليوم، كانت السماء تعجّ بالطائرات، وكأن ما يحدث على الأرض من ازدحام وفوضى، ينعكس على السماء.

صلاة الجمعة… يعني هذا أن استهدافاً ما سوف يحصل لتجمّع المصلّين!

الحادثة بدأت داخل حي الزبدية في مدينة حلب، قسم المناطق التي كانت تحت سيطرة الثوار؛ حينما طرقت الباب جارتنا، بداعي شرب القهوة معنا، دخلت البيت واجمة، كان حديثها يغصُ بالعبرات؛ لقد تركت ابنتيها في المنزل، وهي تشعر بالخوف، أحياناً بسبب ارتفاع منزلها، الذي يتعرض أحياناً لرشقات الرصاص والقذائف، وكانت تصبّر نفسها بالقول: “الحامي هو الله”… نعم، هذه الجملة ضمادٌ غير معقّم في مدن الحرب، جميعهم يرددونها، يصبّرون أنفسهم ليخطفوا من القدر بصيص أملٍ في النجاة.

بدأ الجامع بالأذان، وصوت الطيران لمّا يزل موجوداً، في هذا الوقت، لا ترى إلا القليل ممن يسيرون في الشارع، وتنتهي الصلاة وينتشر الناس؛ بعضٌ منهم يقصد رزقه، وهناك من يتوجه إلى منزله.

بدأ صوت الطيران بالارتفاع، وهذه إشارة إلى اقتراب الطائرة كي تنفذَ الضربة.

الناس مسبقاً كانوا قد اختبأوا في مداخل المباني

القصف يكون عشوائياً على الدوام؛ لا توجد أماكن آمنة، أو خطرة، ولكن هي حالة لا إرادية، وفي هذه الأثناء، لا يُعرف أجلّ من قادم في لحظة من الذهول.

صاح رجل باللهجة الحلبية: (شلفيييييييت)

بعد ثوانٍ … حدثت الضربة!

هذه المرة، البيت اهتز أكثر بكثير من أي ضربة ماضية.

خرجتُ وأهلي إلى الشرفة، لنرى ماذا حدث، فالضربة استهدفت البناء الذي كنا نعيش فيه، إلا أنها في الطابق العلوي، طابق الجارة، وبالتحديد في بيت الجارة.

كان بيتها هدفاً مشروعاً!

أخرجوا ابنتيها من تحت ركام الحائط، دون أي قطرة دم، إلا أنهما استشهدتا بسبب الاختناق!

صدمة الأم، دفعتها للصراخ بأعلى صوتها: “لم تموتا … لا يوجد فيهما أذىً، هما على قيد الحياة”.

هي حالة غريبة جداً من الصدمة أو الفصام!؛ أن يكون الإنسان في حالة من الهذرِ والضحك، والأكل وممارسته حياته الطبيعية، فتنزل عليه كارثة لا يستوعبها العقل، إلا بعد ساعات، أو أحياناً تكون الصدمة أقوى، يستوعبها بعد يوم أو يومين.

مرت ساعة، أو أكثر تقريباً على الضربة الأولى، وتبعتها ضربة ثانية …!

في الضربة الثانية، من أتى لكي يسعف، تم إسعافه هو! أو أصبح من الأموات.

لا يمر على القصف بضع ساعات، فترى كل من تضرر بيته أو محله التجاري، قام بإصلاحه؛ هنا يكمن الفهم الحقيقي أن الحياة لا تتوقف عندما ترى الناس مستمرين بترميم الخراب.

حتى الأم التي فقدت أبناءها، أو زوجها، تمسح دموعها وتنهض، لتقول بقلب أنهكته اللوعة: “احتسبتهم عندك يا الله”.

مدينتي حلب صُنّفت أخطر مدينة في العالم، بسبب شبح الموت الذي يحوم في الشوارع مبتسماً.

مرةً، وأنا أسير ضمن أحد أحياء المدينة، صادفتُ طفلين، يلعبان إلى جانب الطريق، ناداهما رجل من بعيد بأن اذهبا إلى المنزل.. الطيرانُ بدأ بانتزاع الأرواح!

نظرا إلى الرجل باستهتار، وأكملا اللعب؛ هما لا يعيران انتباهاً واهتماماً للحياة، أو الموت؛ اللعب مع الحرب يقتل الخوف منها.

كأنهما يقولان له باستهجان: “ألا ترى هذا اليباب الراقص والجحيم المتحفّز؟!”

لم تكن مدينة حلب معرضة للقصف العشوائي بأكملها، كان يفصل الحي ما بين سيطرة النظام وبين سيطرة المعارضة سواتر ترابية؛ لا يغيب عن بالي ساتر حي بستان القصر، الذي كان مستهدفاً من قبل قناص قصر البلدي، لقد وضع هذا الساتر من قبل فصيل أحرار الشام على شكل حافلات محترقة فوق بعضها البعض، بعد حوادث القنص الكثيرة التي استهدفت المدنيين.

لا أعلم، هل من الممكن أن يعتاد الإنسان على الموت و يدمن الخوف إلى هذه الدرجة!؟

بالنسبة لي أنا، والكثير من الناس اعتدنا هذا الواقع، وتأقلمنا مع هذا الخراب اليومي؛ فنحنُ منذ ولادتنا رافقنا الخراب، نفعل الأشياء التي نرغب بها، كالدراسة، أو الذهاب إلى الدورات والبحث عن عمل مؤقت؛ نقضي أيامنا هكذا؛ بين الموت، وبين البحث عن فرصة للنجاةِ من أنيابِ الحياة.

قد يتعجب الكثير من الناس ممن لم يزر حلب المحررة ويسأل:

” هل هناك مدارس ودورات ؟!”.

نعم، لم يكن ينقص مدينتي سوى الأمان، الأمان الذي طالما تشدّق به النظام، فلقد تم إنشاء العديد من المدارس، في كافة المراحل والمناطق، ابتداءً من رياض الأطفال إلى الثانويات، وقد تم افتتاح جامعة لبعض الفروع قبل النزوح من حلب بعام تقريباً.

وهناك أيضاً بالمقابل، أناس لم يعتادوا الحربَ؛ كانت جارتنا أم أحمد زوجة لشهيد، ولديها ولدان؛ واحد عمره 24 عاماً والآخر 18 عاماً؛ لم يستطيعوا جميعاً الاعتياد على هذه الحال، فأصيب الاثنان بأمراض نفسية، إلى درجة الخوف من أي صوت، وحتى إذا طرق الباب، ينتابهما الذعر من أي زائر.

أوصلهما هذا إلى فقدان عقلهما!

أم أحمد تخرج صباحاً للبحث عن عمل، ولكن، امرأة مسنة مثلها، يصعب عليها العمل، فتطلب من مجالس الحي إغاثةً ما لتطعم أولادها.

في كل حي كان يوجد مجلس يسمى بمجلس الحي؛ المنظمات الإغاثية تتواصل معهم ليتم توزيع الإغاثة على الناس المتواجدة هناك.

الحي الذي كنت أقطن فيه حي هادئ، بعض الشيء، والشارع ذاته، معروفٌ بشارع “جامع البتول”، لا يتعرض كثيراً لقصف الطيران، ولكن يستهدف بالصواريخ، وكانت الحارة قريبة من الشارع العام، الرئيس، وفيها جميع الخدمات المطلوبة؛ (أغذية، وبسطات خضار، وباعة متجولون).  كنت دائماً أعود من العمل لأشتري الخضروات؛ وهنالك محل محروقات، وأيضاً يوجد شبكة إنترنت ومولدة كهربائية.

بالنسبة لشبكات الإنترنت، كان في كل حي تقريباً شبكة تستخدم فقط ضمن نطاق ضيّق ( (wfi ، أما عن الكهرباء، فهي مولدة ضخمة، موزعة على بيوت المشتركين؛ تبدأ المولدة في العمل تقريباً تمام الساعة الخامسة عصراً، وتنطفئ حوالي الساعة الواحدة صباحاً في الصيف، والساعة الحادية عشرة ليلاُ في الشتاء.

ولكن المشكلة الأكبر هي المياه، فمن النادر ما تأتي مياه الشركة، لذا يلجأ الكثير من الناس إلى “الصهاريج”، للاستخدام اليومي، وحينما تأتي مياه الشركة، تقوم ربة المنزل بجمع الأواني المنزلية، الكبيرة والصغيرة، وتقوم بتعبئتها للشرب فقط.

وقد اعتاد جميع الناس على هذه الخدمات الدرامية.

أما عن منطقة عملي، فقد كنت أقضي غالب يومي فيها، أعمل في جمع الاستبيانات من سكان المنطقة المحددة، وهي بستان القصر، هذه المنطقة تعد من المناطق الكبيرة، تنقسم إلى قسمين؛ الكلاسة وبستان القصر. الكلاسة، فيها المعامل ومحلات تجارية لبيع الجملة، أما بستان القصر، فهي منطقة تجمع سكاني كبير، وفيها عدد كبير من الثوار.

بإمكان أي شخص الذهاب إلى هذه المنطقة عبر شارع يسمى نزلة الزبدية، يفصلهما جسر السنديانة، يمر منه نهر الشهداء (قويق)؛ وهو منطقة مناشر الحجر، ثمة هناك ساحة، وهي همزة الوصل بين نزلة الزبدية وبستان القصر. ولكن، كانت مرصودة من قبل قناص لا ينام حتى في أحلامه، ولا يمكن وضع السواتر بسبب اتساع الشارع، مما جعلها شبه خالية من السكان.

ومن الجهة الأخرى، جسر الحج، وهو خط للسيارات، وكانت من المناطق المعرضة كثيراً للقصف، ففي كل عام تتعرض مرة أو مرتين لمجزرة مروعة!

فمن المجازر المؤلمة هناك، مجزرة نهر الشهداء المسمّى سابقاً بنهر (القويق) تاريخ 2-2-2013، ما دفع ثوار هذه المنطقة إلى تجهيز مراكز لمساعدة الناس، وتوزيع إغاثة طبية، وفيها أيضاً إسعافات أولية.

كنت أعمل هناك، معهم، في جمع الاستبيانات، وكنا نخرج شاب وفتاة، ندور بين البيوت، نجمع معلومات عن أوضاع المعيشة، وبساطة السكان تساعدنا كثيراً بعملنا هذا، أما الصعوبة التي كنا نقاسيها، هي من “جبهة النصرة” في شارع الفردوس، فلقد كان يتوجّب على الشاب السير بعيداً عن الفتاة.

(الإسلام يتمطّى في شارع الفردوس دون ذراعين…)

بستان القصر، هذا الحي، ينبض بالثورة؛ كل جدار من جدرانه مملوء بعبارة لإسقاط النظام، كل بناء يشهد على العنف الذي تعرض له، وحقد نظام الأسد وميلشياته منقوشٌ بالدماءِ على أبوابه.

لا يوجد منزل في هذه المدينة وهذا الحي إلا وله جرح لا يمكن أن ترتقه الأيام!

حتى (أبو محفوظ)، ذلك الرجل الكهل، بهلول الحي، كان يعرف مدى الإجرام الذي وصل إليه النظام القاتل؛ فهو كان يقدم المساعدة لأهالي الحي… يتجمّع حوله أصدقاؤه من شباب الثورة، فيفرج عنهم همومهم والضغوط التي عليهم بموال من نسج معاناته، وهو يتأمل دوماً سوريا الجميلة، سوريا التي لا تفترس أبناءها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − 9 =

زر الذهاب إلى الأعلى