ذاكرة حصار

خيانة

ولاتزال تلك الليلة سراً حتى هذه اللحظة التي قررتُ فيها أن أبوح للورق، هاتفني كعادته كل ليلة، يطمئنني عنهُ وعنهم ..

يقول لي أنا هنا لازلت أتنفس ، لازلنا على قيد الحياة
كنتُ أسمعُ صوت الهواء الثلجي البارد يصفعُ وجهه .. إنه البرد القارس في دمشق
كان يقفُ أعلى البناءِ وحيداً يحيطُ بهِ ظلامٌ دامس وصمتٌ مطبق
تكلمَ ،
شعرتُ بالأسى في صوته ، لا ليس ذلك الأسى الذي اعتدته كل يوم .. إنه اليوم مختلف..
قال لي لن أستطيع البوح كلاماً سأكتبُ لكِ ، أغلق الخط  وكتب

واللهِ لقد كنت جائعاً ولمْ أستطع أن أقاوم ألم معدتي وتمزق أحشائي .. كانت كل خليةٍ في جسمي تصرخُ وجعاً

فكرتُ وتذكرتْ عندما كنّا نرى على شاشاتِ التلفزة أطفال أفريقيا يموتون جوعاً، لقد كان يجلسُ بجانبي في ذلك الوقت وتحدثنا حينها..

تساءلنا كيف لأناسٍ في القرن الواحد والعشرين أن يموتوا جوعاً ؟؟
ومع كل التطور وبحرِ التكنولوجيا الذي نغرقُ فيه يوماً بعد يوم، لا تزالُ مشاكلُ الانسانية قائمة.. الجوع .. الجهل.. انعدام المأوى ..
حينذاك لمْ اتخيل أو يتخيل هو أن يجرب شعور الجوع وليس أيما جوع .. بل الجوعَ القاتل ، و أن يقاسمه قلبي جوعه وآلامه دون أن أقوى على فعلِ شيء

كتب:

– أين أنت؟

-معك
– الحمد لله انكِ لستِ معنا، كنت ستكونين أول الراكبين في قطار  الموت
-ماذا فعلتْ ؟؟ لمَ كلُ هذا الحزنِ في صوتك؟
-لقد قلت لكِ كدتُ انتهي من الجوع جسمي لايزال ضعيفا ولم يكن لدي خيارٌ آخر، ارجوكِ ساعديني لأتخلص من الشعور بالذنب، انا أختنق.

يا إلهي كيف لي أن أساعده، اعتدتُ أن أكون له ضميراً آخر ، ماذا لو كانت فعلهُ لا تغتفر

– أخبرني لأساعدك
– كم أنت قاسية !

– كنت كذلك ..كنا كلنا.. لا وقت للخطأ
– لقد خنتهم
-لماذا ؟؟ كيف ؟؟ هل تضرر أحد بسببك؟؟

-كنتُ ابحثُ عن طعام  وتخيلي ماذا وجدت! علبة سردين منتهية الصلاحية منذ سنة، ليس بالوقت الطويل،  لقد أكلتها وحدي، خنتهم ولم  أشاركهم ما وجدت .. كلنا جائعون

تلاشتْ قسوتي أمام اعترافهِ بخيانته.. هل هي خيانةٌ حقاً ؟؟
بدأت دموعي بالنزوح من مقلتيّ .. قلت له

لا عليك .. بسيطة  .
لا اعتقدُ ان تناولك للطعام و أنت جائعٌ جريمة .. ثمَّ إنها لن تكفي الجميع  هي صغيرةٌ حقاً  .. علبةُ السردين

أريدُ منكِ وعداً .. بأن يبقى الأمر بيننا أنا وانتِ فقط
وإن حدث لي مكروه  اطلبي منهم السماح لأجلي

لا تتحدث بهذه الطريقة  لا تفطر قلبي

لم تصلهُ هذه الرسالة  لقد غادر المكان  الذي تصلهُ إشارة المحمول .. وتركني هناكْ  حيثُ كان هوَ
أرتشفُ مرارة الألم
ارتشفُ حسرتي على مهل
عليه.. عليهم  .. علينا..
على ضميره الذي يجلده  … لانه أرادَ الحياة…
هو لم يكن يحتاجُ المساعدة  .. كان يحتاجُ لمن يحملُ معهُ  عبء  أوجاعه

متى كانَ تناولُ الطعامِ جريمةً أو  خيانة.. ؟
وهل هو خائنٌ فعلاً
ثمِّ من ستكفي قطعٌ من السردين المعلب  والمنتهي  الصلاحية أيضاً ؟
ما الذي يحدثُ على هذهِ الأرض..
ما الذي نعيشهُ ..  هو الجوعُ الذي لا يرحمْ..
هو العذابُ الذي يخطُ يومياتهِ على ألواحِ ذاكرتك..
هو التعبُ الذي يحفرُ اخاديده على مُحياك..
هو..
هو الالمُ الذي يميتُ  الابتسامة ويلدُ الأسى..
يَسِمُ كلَّ الوجوه بالحزن..
ويضعُ لمستهُ الجارحةَ منّا في مقتل..

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

12 − ستة =

زر الذهاب إلى الأعلى