مذكرات شاهقة من مدينة الفنتازيا الواقعية “حصار حلب” 2
مذكرات شاهقة من مدينة الفنتازيا الواقعية
“حصار حلب“
الجزء الثاني
***
*بلقيس الحلبي
مدينة الفانتازية الواقعية …قد تكون هذه التسمية الأنسب لها، هكذا أنا أسميتها.
لم أكن مستعدة للمفاجآت، ولكن حين لحظة الرعب، عليك أن تنقذ نفسك حتى لو اختبأت وراء ظلك. خلعت حذائي وبدأت بالركض تجاه اللامكان؛ كنت أركضُ بعشوائية، يميناً وشمالا، وتارةً أقفلُ راجعةً !.. لحظة من الجنون كانت؛ أغمضتُ عينيَّ، تخيلت أني أركضُ على رمال الشاطئ، وأنا ممسكة بحذائي.
يا لهذا الخيال الأرعن.. لستُ في (فيديو كليب) مع أحد مطربي الأغاني الرومانسية !
أنا الآن داخل شاشة (تلفاز).. أركض؛ هي هذه المدينة، والسماءُ ترمينا بحمم القذائف، وحتى المطرب الذي كان في خيالي، قد أصيبَ بشظيةٍ طائشة وأخذ ينزف لحناً من خاصرته.
ذكرى بعض الأصدقاء والأقارب القتلى، تدفعني للحياة.
وصلت البيت أخيراً. تاركةً ظلي الخائف مختبئاً وراء سيارةٍ مُعطّلة. استقبلتني أمي بعباراتها التي لا تملّ تكرارها أبداً: “لماذا تأخرت؟، أنتِ تعلمين ما يحدث عند المساء؟”.
كان القصفُ يشتدُّ بعد الغروب، وكأنهم يريدونَ إضاءةَ ليل حلب الكفيف!
كنتُ أكرر أيضاً جوابي المعتاد: “وفي النهار، ماذا يحدث؟”
تختم أمي حديثها بالدعاء لنا.. وكأن كلّ تضرعٍ لله من قبل الأمهات في سوريا، سيعيد أولادهن القتلى أو المعتقلين!
في كل صباح كأن شيئأ لم يكن؛ نستيقظ بذات الأجسام الخاملة، والأرواح التي تترقبُ الرحيل.. حتى أمي؛ السيدة الكبيرة، كانت تعمل في تصميم أزياء لمسرح الأطفال، تقضي جل يومها في العمل.
قبل أعوام، في بداية الثورة، لم نكن نرغب بأي عمل، كنا نأمل بأن تنتصر الثورة وأن لا نصل إلى ما وصلنا إليه من قتل وخراب وتهجير.
في أواخر عام 2012 نزحنا إلى قرية (عنجارة) في ريف حلب الغربي؛ كانت تحت سيطرة داعش، ولم نكن أنا وعائلتي نخرج من البيت، وللريف أوضاعه الصعبة آنذاك، إذ من النادر ما تتوفر الكهرباء، ولا يوجد عمل للرجال، وحتى نحن لم نستطع العمل.. ولقد كانت إزعاجات أهل الريف للنازحين مقيتة، وكان الكثير من العوائل النازحة قد زوجوا بناتهم القاصرات بأهالي القرية (المستضيفة) درءاً للمضايقة، إضافةً إلى أن هذه العادة؛ تزويج الفتيات بعمر مبكر، كانت ولما تزل موجودة لدى البعض من أهالي حلب حتى الآن. أغلب الفتيات تم تزويجهن بالمحاربين (عناصر الفصائل) أو بسكان الريف كقربان لضمان البقاء.
ومع هذا لم نكن نرغب بالنزوح، فحالة عدم الاستقرار في مكان معين، هي من المعضلات التي يصعب حلها، وخاصة أن البلد بأكمله كان بأوج اشتعال الحرب، فيه يضيعُ الحذقُ في زوبعة من الحيرة.
وكانت هذه حال الكثيرين من الناس، إذ كان أغلب مناطق حلب المحررة تحت وطأة العسكرة، لذلك، كنا مجبرين على البقاء هناك، وأن نتغاضى عن المشاكل التي تحدث بين المقيمين والنازحين.
ولو لم يجبرنا فصيل من تنظيم (داعش)، ما كنا لنذهب إلى المدينة؛ في البداية رفضنا الخروج، لأننا لا نعلم إلى أين نذهب، فلجأ عناصر (داعش) إلى القوة، أصرّوا أن يأخذوا والدي، لولا أن واجهناهم أنا وأخواتي البنات، ووقفنا أمام السيارة، وقلنا لهم : “إذا أردتم أخذه اقتلونا أولاً”.
غداً إلى حلب..
ولم نكن نعرف المصير الذي ينتظرنا.
هذه الواقعة لا تغادر مخيلتي، على إثرها أصبح لدي يقين أن الخوف مجرّد ظل، نغتاله حينما نطفئُ ضوءَ الحذر مما نخشاه؛ وأنا موقنة بالأفضل.
في المدينة بدأت بالدراسة أنا وأخواتي.. وأيضاً بالعمل، كانت أعمالنا تطوعية، إلى أن أصبح لدينا مردود، وهذا لا ينطبق على أسرتي فقط، فقد عاد الكثير من الناس إلى بيوتهم، ومن لا يملك بيتاً، لجأ إلى أحد الفصائل أو إلى مجلس الحي، ليتسلم بيتاً قد هجره أصحابه إلى بلد آخر، أو نزحوا إلى مناطق النظام.
هذه الذكرى عادت إلي وأنا ذاهبة إلى عملي ذات يوم؛ كانت المسافة تستغرق ساعة تقريباً، ومع هذا، لم أرغب بأن أركب سيارة أجرة.. كنت أحب أن تطأ قدماي كل شبر من هذه المدينة الفنتازية.
حب الوطن لا يولد إلا في الحرب.
كان مقرر عملي في ذلك اليوم زيارة ثلاث عوائل في حي الفردوس، الحي الشعبي، البسيط، ذي الشوارع الضيقة، العشوائية،الملأى بالحفر الطينية. مباني الحي مؤلفة من أربعة إلى خمسة طوابق، مبنية دون أساس، لبنتها “البلوك” ذات نوعية رديئة، يمكن لقذيفة أن تدمر طابقين، وصاروخ كفيل بأن يجعلها كومة من التراب تصلح لردم القبور.
لدى باب أول عائلة قمت بزيارتها، استقبلتني سيدة لا أبالغ إن قلت إن عظام وجهها كانت بارزة وكأنها تقول لدهاقنة برنامج الغذاء العالمي في الأمم المتحدة: “الجوعُ يأكلنا”.
دخلت وجلست على (إسفنجات) لا تمنع لسع برودة الأرض، ثم سألتها الأسئلة المقررة.. ومن بين الأسئلة: “هل يوجد أطفال معاقون؟”
أجابت: “نعم”.
طلبت أن أراهم .. دخلت الغرفة فوجدت ثلاث جثث ملقاة على الأرض، نعم، كانوا جثثاً، هياكل عظمية، مشلولين شللاً كلياً!
سرت قشعريرة في جسدي بأكمله، حتى أنني لم أستطع أن أميز الذكر من الأنثى.
نظر إليّ أحدهم، تبسّم وابتسمت له، فقاطعتني الأم قبل أن أتكلم: “ابني هذا يحب الضيوف كثيراً”..
كنتُ أريد أن أطلبَ منها الدخول إلى الغرفة الثانية، ولكن حين قالت هذه العبارة، طلبت منها أن أجلس في غرفتهم، والابتسامة لم تغادر وجهه طيلة الجلسة.
.. أكملت الأسئلة:
ــ كيف تؤمنين لهم الماء؟
ــ أنزل كل صباح إلى صنبور الحي، أنقل الماء المستخرج من آبار حُفرت أمام الأبنية، وأملأ البراميل التي في المنزل.
– لم لا تستخدمين الخرطوم؟
فأجابتني وكأنها تسخر من هذا السؤال:
– ومن أين آتي بثمن الخرطوم؟!
كانوا بحالةِ فقرٍ تُبكي، وكأن نوايا الفقرِ المُسبقة منقوشةٌ على رخامةِ مدخل المنزل: (هذا من فضل ربي)!
الصدمة، أن زوجها على قيد الحياة، وكان من جنود النصرة، تركهم وتزوج، ولا يزورهم مُطلقاً.
أيةُ (نصرة) هذه، ولمن؟ … أجزمُ أنها (جبهة نصرة الأسد).
بات مفهوم تعدد الزوجات في (الإسلام الجهادي) داخل سوريا للمتعة فقط!
لماذا إذن يمتعضون ويتقززون من زواج المتعة في إيران ومن زواج المسيار في السعودية مثلا؟!
استأذنتُ بالخروج..
تملكتني غصة شاهقة، ورغبة في البكاء، ولكن باختصار: هي الحرب، تنشر خرابها حتى بين أجنحة الملائكة.
لم أستطع متابعة العمل، عدت إلى البيت.. انتابني شعور مؤسف؛ هل هو كره هذا الوطن؟
أم الانزعاج من الثورة التي لم تنصف أبناءها!
الأم المسكينة التي زرتها قالت لي إنها تحبّ _وطنها_ وتكره قسوة الغربة، لذلك، لا تريد الخروج منه.
لماذا لم يحيِيها وطنها هذا كما أحبّته ؟!
ولسخرية الحياة أو القدر، لا أدري.. بعد أن وصلت إلى حينا، سمعت أن رجلاًأعرفه، يعمل فلاحاً في أرضه التي لا تبعد عن منزله سوى دقائق، بُترت يداه بشظايا صاروخ كان قد سقطَ جوار أرضه؛ أعتقد أنه كان يحمل معولاً يحفرُ به قبراً لساعديه!
هذه الكوابيس لازمتني على مر أيام، كأنني مشتتة الذهن لا تصفو أمامي ذكرى أو حادثة.. كلها تختلطُ في آن معاً داخل دماغي.
نمتُ بعمقٍ وكأنني قتيلة حينما عدت إلى المنزل..
أستيقظت على رنين الهاتف؛ كان المتصل (عبد الجواد)، الشاب الذي يعمل معي في جمع الاستبيانات. كان يتوجب علي أن أوبّخ (محمد التدمري) صاحب محل الإنترنت، وأشكو له مراراً من ضعف الشبكة أو أن بطاقة الاشتراك لاتعمل، ولطالما قال إنه يعمل على إصلاحها، وتمر شهور ولا يتغير شيء، سوى الموت يتجول بسرعة (باقة 1000 Gigabit جيجا بايت) في شوارع المدينة.
وصلت إلى ساحة المشهد، التي شهدت مجازرَ شنيعة ارتكبها النظام السوري، هناك ينتظرني زميلي في العمل؛ كان علي أن أكمل مقابلة بعض العوائل في منطقة الفردوس.. طرقت بابَ أحد البيوت المقررة في الجدول لدينا.. فتح رجل عمره قرابة 50 عاماً، تقدم الشاب لمحادثته، افتتح الرجل بكلمة استنكارية عوضاً عن التحية: “خييييير؟! “
رد عبد الجواد بالسلام والرجل لم يرد عليه.
قال زميلي: “يا سيد.. لدي بعض من الأسئلة عن أوضاع المعيشة”.
تأفف الرجل قائلا وهو يتلفت وكأنه يبحث عن مجيب: “هذا الشاب.. من أي كوكب قد أتى!، وهل الأوضاع تخفى على أحد؟!”
وبغضبٍ صاح بنا مرة أخرى: “نحن لسنا وسيلة لكم ولا لغيركم كي تتقاضوا علينا أجوراً، تظنون أنفسكم موظفين في الأمم المتحدة التي تقتلنا باسم الإنسانية”.
وأغلق الباب بقوة، وكأنه يغلقُ جدولَ المقابلات لهذا اليوم.
أنا على يقين أن لا ذنبَ لأي أحد من هؤلاء الناس حينما تتغير سلوكياتهم؛ فالحربُ مختبرٌ لكل النفوس والأدمغة، تجعل منّا شخوصاً غير واقعيين، مجانين، فوضويين… بل موتى يسيرون بغير هدى.
الكثير من القانطين لم يغادروا حلب، باستطاعةِ أغلبهم تأمين بعض من سبل عيشهم، وهي الإغاثة الغذائية والطبية، ومن يفيض لديه منها.. يبيعها.
أضع اللوم كله على لصوص (مغارة علي بابا) قادة الكتائب والفصائل؛ كل يوم نسمع بفصيل جديد، وكتيبة جديدة، وقائد لؤاء جديد.
الثورة أصبحت مغارة وبنكاً للقتلة والزائفين.
“جبهة النصرة” تكفر الثوار والثوار يقولون إن عناصر النصرة دخلاء وقد أتوا لضرب الثورة في عمودها الفقري..
الكل يغني على ضفته، الكل ينسجُ قميصاً يناسب توجّهه وميوله، ونحن نرقصُ على حافة الهلاك أمام الكرة الأرضية.
نهاية الجزء الثاني
يتبع ..