مذكرات شاهقة من مدينة الفنتازيا الواقعية 3

اقتحم الجيش السوريّ الحرّ في تموز من عام 2012 أحياء حلب الشرقية، كان حينها فصيلاً واحداً (لواء التوحيد) يقوده عبد القادر الصالح (حجي مارع).
وفي مدة قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أيام سيطر لواء التوحيد على أحياء حلب الشرقية، أي على ما يقارب الستين في المائة من مساحة المدينة.
طيلة عام كامل، كان الفتور قد نال من جبهات القتال؛ رُسمت الحدود ووضعت الحواجز، وازداد عدد الفصائل بشكل كبير، ففي عام 2012 كانت مقرات الجيش الحر منتشرة أمام المدارس وبين المباني السكنية، حيث أصبح هناك قائد ومنطقة لكل فصيل، وكل فصيل يفعل ما يرغب به دون رقابة، فغدت الأرضُ هناك مشاعاً للمحاربين والاقتتال.
ــ الوطنُ لا يلفظ سوى المقهورين والأبرياء.. أما القتلة، وتجّار الدماء والبشر، فهم أبناء هذا الوطن الخرافي!
في الشهر الرابع من عام 2013 دخل تنظيم (داعش) مدينة حلب، فرح الأهالي بأن الثورة تكبر، وتتسع رقعتها؛ إذ كان التنظيم يمتلك من الأسلحة والجاهزية ما يغري الناس، ولم يعلم أحد أن كل هذا كان ثوبَ خداعٍ قد حيكَ بإتقان؛ اتخذوا مقرات لهم ونصبوا شعاراتهم تحت مسوغات إسلامية.
آنذاك، كان يطلق عليهم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، ولم يكن معروفاً هذا التنظيم باسم “داعش” بعد؛ وعندما تمكنوا، فرضوا نظامهم وأوامرهم على الحياة الاجتماعية، ومن بينها المدارس، فأُجبر المدرسون على تعليم الطلاب (الدين) بالطريقة والمنهج الذي تقرره (الدولة الإسلامية)، كما فرضوا الأنظمة والإتاوات التي هم يضعونها.
عملت أختي مرة في إحدى المدارس التي كانت تابعة لهم؛ مديرة المدرسة كان عمرها ثمانية عشر عاماً، وعيّنت لكونها على ارتباط بأحد جنود (الدولة الإسلامية)، وتفعل ما يطلبونه منها من تعاليم ومراقبة سلوكيات المدرسات والطلبة. وهي تطوف بين الصفوف مرةً، ظفرت بمعلمة تستمع لأغنية لــ “فيروز”.. فذهبت المديرة وقدّمت شكوى لعناصر (الدولة الإسلامية)، ففُصلت المعلمة، وحُرمت من راتبها، ولم يكتفوا بالمدارس طبعاً، فحتى المواد الغذائية أصبحوا يصادرونها لأنها أتت من عند (الكافرين)!.
بعدها انقلبت (الدولة الإسلامية) ضد الجيش الحر، وفي بداية الأمر كان ذلك بشكل خفيٍّ؛ تختطف محاربين من فصائله، حتى اكتشف أمرها، فأصبحت تهاجم مقراتهم، وتخطف العديد من الرجال، وتغتال القياديين والعديد من الناس الذين يخالفون معتقداتهم.
مرةً، جرت عملية اغتيال تحدّث عنها الناس مطوّلاً؛ كان أحد رجال الفصائل مصاباً، ونُقل إلى مشفى الزرزور في حي السكّري، وأُجريَت له عملية إسعافية، حينها، دخل مقاتل من (الدولة الإسلامية) إلى المشفى وقطع رأسه، وخرج يجوب به الشوارع، يمشي بين النساء والأطفال صارخاً: “لقد ذبحت كافراً”.
كنت أظن أن خروج هذ التنظيم القذر سيحل بعضاً من المشاكل، إلا أن (جبهة النصرة) كانت على منهجهم تقريباً، رغم أنها قامت هي أيضاً ضدهم، وما كان ذلك، سوى تبادل أدوار، ولكن بأقنعة أخرى، وشعارات منمّقة قليلاً بالرأفة.
هذه المجازر التي افتعلتها (الدولة الإسلامية)، لم تستطع الفصائل السكوت عليها، فتجمّعوا واتفقوا لأول مرة على إخراجهم، فأخرجوا في الشهر الأول من عام 2014، بعد معاركَ طاحنة، أدمت حتى الصخر. كنت أظن أن خروج هذ التنظيم القذر سيحل بعضاً من المشاكل، إلا أن (جبهة النصرة) كانت على منهجهم تقريباً، رغم أنها قامت هي أيضاً ضدهم، وما كان ذلك، سوى تبادل أدوار، ولكن بأقنعة أخرى، وشعارات منمّقة قليلاً بالرأفة.
إذ أصبحت (جبهة النصرة) تكفّر وتهاجم الثوار، والإعلاميين، وتضرب يميناً وشمالاً!
ذات جمعة في عام 2015، كان بعض من ثوار بستان القصر والإعلاميين مجتمعين، فهجم عليهم رجال يمتطون الخيول، وخلفهم مدفع (دوشكا)، وكما يفعل الشبيحة؛ بخّوا على جدران الشوارع اسم (الجولاني)، وعبارات تمجّد النصرة، وخرجوا في زهوٍ وأنفة.
هذه الحادثة، كانت بعد اشتباكات جرت بين فصيل من الجيش الحر والنصرة، فقام ثوار بستان القصر بمظاهرة ضد النصرة، وكان هذا الردّ الهوليوودي.
لقد تملك الناسَ الخوفُ، كانت الحرب مشتعلة بكل أنواعها، جوّاً وأرضاً، وللأسف الاقتتال جارٍ على أشده فيما بين الفصائل، وحينما اشتدّ الصراع، لم يعد الناس يرغبون بهذه الحياة، فكثر النزوح إلى مناطق النظام؛ يذهبون ومن ثم يعودون إلى بيوتهم في المناطق المحررة، وجميعهم يردّدون: “لم يختلفوا أبداً عن شبيحة النظام وميليشياته”.
أرضنا التي قامت ضد الظلم، ضد السرقة والنهب، تصبح أرضاً لاختباء العصابات وراء رجال الثورة وتحت راية الثورة.
إن اجتمع عشرة رجال يمتلكون السلاح، يضعون “متاريس” في بداية كل شارع، ويطلقون على أنفسهم بالـ(كتيبة الفلانية)!.
أذكر أن هناك عشرين كتيبة أو أكثر لمحاربة النظام، إلا أنّ جلّ همومهم كان الاستئثار بالقيادة والسلطة، وما يسمى بالدعم، وعليهم أن ينفّذوا ما يمليه (الداعم) بالحرف الواحد.
مرة كنت أشاهد قناة حلب اليوم، كان أحد القادة العسكريين في مقابلة تلفزيونية، قال حينها : “نحن لا نتوحّد، لأن الداعم لم يطلب منّا ذلك، ونحن مجبرون أن نرضخ لأوامره وتوجيهاته، بسبب قلّة السلاح وخوفاً من قطع الدعم”.
القصف الروسي على الأحياء الشرقية لا يتوقف، مثل (الدعم الدموي)؛ الحرب اشتعلت ومن الصعب التنبؤ بالنصر. كنا كثيراً ما نسمع أن أمريكا سترسل مضادات للطيران؛ هذه الكذبة، هي ذات الأغنية التي كان أهلنا يردّدونها على مسامعنا أيام الطفولة (نام نام .. لذبحلك طير الحمام، روح يا حمام لا تصدّق، أضحك على ابني لينام).
المجزرة تلو المجزرة، والقصف العشوائي مستمرٌ كالوجع في قلوبنا، ويلازمنا كالظلال، ولم يرسلوا مضاداً للطيران، بل سمحوا بدخول كل شذّاذ الآفاق والقتلة، وهم يتسامرون أمام المذبحة السورية.
مرت ثلاث سنوات على الثورة، ولم يعد هناك أي تقدّم، وكأننا اعتدنا هذه الحال!
كان الجيش الحرّ متشرذماً، وكأنه يعكس بحالته تلك قرارات الأنظمة العربية تجاه سوريا..
منطقة (باب الحديد) لديها فصيلها وعصابتها، ولا يسمح لأي فصيل بدخول هذه المنطقة، ولا يسمح حتى لمقاتل واحد، لأنه من فصيلٍ آخر.
وكتائب (الزبدية) لا يسمح لهم بالاقتراب من بستان القصر، وثوار بستان القصر لا يسمح لهم بدخول الفردوس!
إن هذا التشرذم بين الفصائل أدّى إلى تراجع الثورة في حلب، بشكل كبير، ولم يعد يذكر أي عمل من أعمال الجيش الحر.
انتشرت الأسلحة بشكل غير مسبوق؛ شباب مراهقون يحملون السلاح، لكي يديروا أمورهم وحاجات ذويهم. إذ أصبح من يعمل مع أي فصيل، له القوة، ويتقدّم على الناس العامة البسطاء في الحصول على الماء والإغاثة والكثير من متطلبات المعيشة.
كنا مرة في منطقة الإذاعة، نوزّع سلالاً إغاثية، أتى وقتها قائد كتيبة، يحتاج إلى عشر حصص، له ولمعارفه، ولو لم نكن موجودين، كان أخذ ما يريد وذهب.
“السلاح يتكلّم، لا الأخلاق..”
السلال الإغاثية كان يتقاسمها مجلسُ الحي وبعض من الكتائب المسيطرة على جغرافيا منطقة التوزيع، لذلك، أصبح توزيع الإغاثة بعد ذلك تحت إشراف المنظمات، درءاً للغبن والسرقة.
حتى على صعيد الماء والكهرباء (المولدة الكهربائية)، تعمل دائماً لديهم، أي الفصائل، لا تنقطع، في حين أن هناك عوائل لا يستطيعون إدخال الكهرباء إلى منازلهم، وقد تكون هذه الأسباب بسيطة، ولكنها تشكّل عند الناس وجعاً وقهراً لا يقاسان بشيء.
كانت إحدى جاراتنا أرملة، لديها أطفال صغار وتأخذ من جمعية للأيتام (مرتب كفالة)، طلب أن يتزوجها أخو زوجها القتيل، كان يعمل مع كتيبة، تزوجته.. فبدأ يعاملها بسوء، حتى أصبح يأخذ معاش أطفالها الأيتام!
الحرب لم تنزع الأرواح فقط، بل نزعت الرحمة من قلوب أقرب الناس.
أصبحت النساء أكثر استضعافاً باستشهاد أزواجهن.. لديهنَ واجبات إضافية للقيام بها تجاه أولادهن الصغار، علاوةً على واجباتهن كأمهات.
هنالك نسوة يرسلن أولادهن إلى العمل أو التسوّل تحت قصف الطيران والتيه..!
زهرة… الطفلة التي كانت تعاني من قصور في النمو الدماغي، كانت تدور في حافلات النقل (السرفيس) عند جسر الحج، تترجّى هذا وذاك، من أجل إعالة أهلها، ومن لم يعطها، كانت تنعته بالكلمات البذيئة وتدعو عليه! هذا الأسلوب، يجعل أغلب الركّاب يترأَّفون بحالها..
هي لا تعرف شيئاً، سوى أنها تريد تأمين ثمن الطعام، ومثلها كثر، في حين كان محل مشاوي العتيق ببستان القصر يعجّ برجال المنظمات ورجال الفصائل!
يتبادر إلى ذهني أحياناً ذلك الأسف الممزوج بالألم، فهل قمنا بمظاهرات ضد المستبدين وقد ضحَّى الكثير بحيواتهم، بعد أن خرجوا لمصير مجهول (الموت أو معتقلات النظام)، لنقع في ذات المستنقع؟!
لذلك اضطر كثيرٌ من الشباب إلى ترك أراضيهم والهجرة إلى بلادٍ تنظر إليهم بعين الشفقة التي لم يروها من أبناء جلدتهم!
ــ الوطنُ لا يلفظ سوى المقهورين والأبرياء.. أما القتلة، وتجّار الدماء والبشر، فهم أبناء هذا الوطن الخرافي!
*هكذا تعلّمنا الكرهَ والحبَّ والدهشة في سورية..