خاطرة

ثلج

كان نهارا أبيض مضيئا، ومن قال إن الشمس وحدها تضيء أيامنا، وكنت مرهقا قليلا رغم جمال البياض وارتياحه.. تعاملت كما لو أن الكساء العرائسي ذاك لا يرى إلا مرة واحدة في حياة المرء، مسقطا في عجالة سوريتي على المشهد الأوروبي الهادئ.

داعبت ذرات الماء الطرية فوحدتها على شكل كرات ورميتها مع كثير من الذكريات على إخوتي، مستعيدا في دقائق معدودة سنوات مضت… تبادلنا بعدها الصور التذكارية، وحتى الحصان الذي في مزرعة جارنا أحبّ الظهور أمام الكاميرا وظل ببعض النظرات والركضات والصهلات حامي الدم نشيطا رغم برودة الأجواء.

في الذاكرة بقي الثلج منذ تسعينيات القرن الماضي عالقا على صور الطفل المنسيّة في الدار، متراكما فوق قبعاته الصوفية وخلايا شعره. بل إن آخر مرة أذكرني داعبت كرات الثلج كانت في الخامسة من عمري، ولم أكن لأعرف ذلك لولا المتوفر من أرشيف العائلة عن تلك الحقبة التي باتت شيه أثرية.

وقبل أن يكتمل تجريف الثلج من ذاكرة مخيم اليرموك الفلسطيني السوري حيث ولدت، أبت تلك الصور إلا أن ترد إلي، ومن حسن الحظ أن “المعفشاتية” حين عفشوا بيتنا الودود، نسوا أن يستعيروا القصاصات الكرتونية التي تحكي قصتي مع الثلج، ربما لأنها وأصحابها أقل قيمة بنظرهم من البرادين والغسالة والتلفاز أو لأن مستواهم الأخلاقي لا يسمح بسرقة الصور فـ”للـبيوت أسرار” !.


فأنا أعلم جيدا أن “خيمة عن خيمة تفرق” كما قالت أم سعد، وأكاد أجزم أن ثلجة عن ثلجة تفرق أيضا، ولاجئا عن لاجئ يختلفان، فكيف بها تتساوى مع أختها على مداخل مخيمات اليرموك وخان الشيح ودرعا يوم كان الثلج لعنة وتهجيرا، أو مع تلك التي في مخيمات عرسال وعفرين واعزاز خلال موسم هجرة الجنوبيين الفقراء إلى الشمال قسرا.

وكم كنت محظوظا أن حصل مع المعفشين، الذين هم مثقفون نخبويون في الغالب!، تناقض دفعهم سرقة سلسلة الموسوعة الفلسطينية ذات الأوراق الثخينة والمحتوى الثري من مكتبة أبي باعتبارها قابلة لإعادة التدوير مثل سيادة رئيسهم، فيما اكتفوا بنثر ألبومات صورنا وسط البيت رغم أنها غنية بالمحتوى وأوراقها ذات جودة أعلى من جودة أوراق الموسوعة.

وفي عقلية شاب اعتقد طوال حياته أن الثلج لا يتراكم إلا داخل صور أطفال القرن العشرين ممن لا تتعدى أعمارهم اليوم تسعة وعشرين شتاء، يحصل تنازع رهيب حين يعود الكائن الأبيض للظهور الآني على شروط غيابه السابق، فالظهور هنا على عكس المألوف تغيب معه أيام الخير عن الفلسطينيين والسوريين، فالثلج يرافق هجراتهم المتعاقبة ويتأبّط شرّا بالمحاصرين والنازحين والمهجرين الذين كانوا يرجون لقاءه غير مختلط بالطين والموت في سبع سنوات عجاف كثر بردها وقل عطاؤها عليهم.

واساني الثلج نفسه من ذاك التنازع، واستطاع أن يصير قاسما مشتركا بيني وبين من أحب من بشر وحجر لا أن يظل مجرد دستور مادي لفهم الحياة بتعقل زائد، فأخذني إلى يوم خرج الناس في لجوئهم الثاني وعشت مع نفسي لساعات شيئا من مشاعر النكبة ومشتقاتها، قبل أن يتشبه الأبيض بنقاء قلوب الشهداء والمعتقلين وطهر أطراف الأمهات الباكيات أطفالهن الصرعى من الجوع والبرد ورصاصات القنص أثناء التغذي على حشائش المخيم المحاصر.

ولما تفرجت عليه بعفة وبهجة دمج الثلج بين جرأتي في الإعجاب بوضوحه وتناسب ألوانه مع باقي المكونات، وبين خجلي من التحديق في عيون من فارقوا أعز ما يملكون، وهو الذي كون في أناي ثلاثية الطفل الذي عاش الأبيض مرة وحيدة داخل الصور يوم أحب في شبابه أن يرى المكان والزمان مهيبين كهيبة الشيب في رأس الجد، فتوفي الجد؛ وأقصي الجميع؛ وأطلق على الثلاثية اسم “الخروج من الصورة”.

ولقد عشت كل التجربة مذهولا لما أفلح الثلج بجعل فرح اللحظة رديف ألم الذاكرة، وتعجبت أن أضحى التفاؤل بالأبيض المشرق والتوجس من العتمة سيّان، ولربما تأكدت أن الطبيعة أنصفتني من سارقي ذاكرتي بالثلج، لكنها لم تساوني بالعظماء من قومي، فأنا أعلم جيدا أن “خيمة عن خيمة تفرق” كما قالت أم سعد، وأكاد أجزم أن ثلجة عن ثلجة تفرق أيضا، ولاجئا عن لاجئ يختلفان، فكيف بها تتساوى مع أختها على مداخل مخيمات اليرموك وخان الشيح ودرعا يوم كان الثلج لعنة وتهجيرا، أو مع تلك التي في مخيمات عرسال وعفرين واعزاز خلال موسم هجرة الجنوبيين الفقراء إلى الشمال قسرا.

ينتهي اليوم بتناقضات الحاضر والماضي… وفي ترنح غفلتي واستئناسي ووحدتي ما بين هذا وذاك؛ يسألني الثلج ببراءة الطفل ونضوج الجدات: هل أنا أبيض إلا في بلادك؟.

أِشرف السهلي

طالب ماستر تخصص (تمويل) وخريج كلية الاقتصاد - قسم التأمين والمصارف في جامعة دمشق صحافي مهتم بقضايا المخيمات الفلسطينية في سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة − اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى