من يوميات شهيد .. صبر متأجج
كُلُّ شيءٍ يرتجف، حتى الحائط أيضاً يرتجف، وصورة الصديق المعلقة أمامي ترتجف معهُ، أُمسكُ جسدي بما فيه بؤبؤ عيني لأكون الثابتَ وأكتشف كم هو الكون من حولي يرتجف.
أرى ابتسامتهُ الطفولية الثابتة فيقفز قلبي ويسخر مني ومن نظرية الثابت والمُرتجف في هذه الحياة، التي أبدعتُها لأنسى تفاصيل غياب الصديق عن باب الحُلم الذي قرعناه سويَّاً في يومٍ ما ونحن نحتسي خمرة الحرية، ويبقى هذا الهدوء الفوضوي، المُتسعة دقائقه بحسب توقيت المجتمع الدولي البارد .
لا يسعني سوى أن أُخرج من خندق الذاكرة حدثاً تخمَّرَ، وأصبح جاهزاً لأثمل عليه بلا ( مازا) أو نشرة الثامنة، ربّما في قصيدةٍ لمحمود درويش أو رياض الصالح الحسين، أو روايةٍ لعبد الرحمن منيف. وربّما أضع في جهاز تسجيل ذاكرتي صاحب الأزرار الكبيرة، والثقيلة المغبرة من اهتراء حائط غرفتنا الترابية القديمة، ويصدح الشيخ إمام ( أنا توب عن حبك) فلربما أستطيع أن أبدأ صباحي بابتسامةٍ بالأبيض والأسود، فتتحرك أناملي وتصنع لصدري المتشنج سياسياً لفافة تبغٍ بلديٍّ، أحرق فيها رائحة الأرض بما عليها من فلاحين وعمال وصغار كسبة، بكل ما فيها من شبق المعجزة .
وربما لا أفعل ذلك وإنما أقلِّبُ محطات الراديو حتى أجد بين وشوشات بقايا بثِّ إذاعات تكذيب النكسة وخسارة الحرب وإعلان انتصار القائد، للشعب المهزوم على العدو المبتسم دائماً “أرضاً وانتصارات” ، أو صدى أغنيةٍ لفيروز ( يسعد صباحك يا حلو)، فترتاح شتلة الحبق أمام غرفتي من أزيز نقاش الليلة الفائتة مع الرفاق القدامى، عن “كيف تصنع ثورةً في عشرة أيام” وكيف تقضي على الاستبداد في تربية الشعب الجائع .. على نظام الكوادر المثقفة ثورياً، حتى لا تقع في فخِّ الانعطافات التاريخية وأزمة المؤامرة.
ربما سأشعر لحظتها بحرارة الحمى في رأس وبطن وذاكرة ( بابلو نيرودا ) والجيش يحاصر منزله وهو يحمي البحر من السرقة، و أغرف من مذكرات صديقي الشهيد كأساً، ذكرى لصديقٍ ما، كان معنا، واختفى في زحمة الحلم .
التقيته في مقهى من البيوت الدمشقية القديمة في باب توما، وكان الطقس ربيعياً، أمَّا أمنياً، فقد كان كلُّ شيءٍ في المدينة خريفيٌّ خانق .
حقيبته الصغيرة مُعلقةٌ في كتفه، لم تفارقه مُذ عرفته في أيام الثورة الأولى، يحمل فيها أوراقه الثبوتية، بطاقته الجامعية، وبعض من الأوراق المطوية على عجلٍ، وقد دَوَّنَ عليها بعض الأفكار عن مشروعه الحقوقي والسياسي، ضمن العمل الثوري، و فيها أيضاً كُلُّ ما التقطه من لقاءاته الحميمة مع حبيبته .
كان يحمل في حقيبته الصغيرة وطناً مختصراً في متعلقات الأيام والأحلام الماضية..
التقيته بكامل خوفه، على غير العادة، جلسنا، تكلم كثيراً وبشكلٍ متوترٍ وسريع عن كل شيءٍ يخص المستقبل، وعن انعطاف الثورة نحو المال السياسي وجعل بندقية الثورة مأجورة للأجندات المختلفة، التي تحمل هدفاً مشتركاً واحداً، ألا أحد في هذا الكون له المصلحة في انتصار الثورة، ولذلك لم يبقَ مَن نُراهِنُ عليه سوانا.
هاتفه في يده، وأصابعه لم تهدأ أبداً وهي تنقر على حروف الأزرار وهو يتحدث، وهو يبعث الرسائل الالكترونية ونظرهُ ينتقل بين وجهي المُتابعِ لكُلِّ حرفٍ وحركةٍ منه، حتى تَعَرقهُ الظاهر، وبين الشاشة الصغيرة لهاتفهِ المحمول ووجهه، والمقروء من عينيه بأنَّ حدثاً سيئاً جداً يحدثُ معه ويتوقع منه الأسوأ على غير عادتهِ في إظهار الهدوء واستيعاب الأحداث في سبيل خلق الخطوة القادمة.
أوقفت حديثه وحركة يديه وسألته :
_ وأنت؟
ترك الهاتف من يده، وتلفَّت إلى عيني مباشرةً، كانت عيناه تبرق بدمع حبيسٍ، أحسست بأنه يتمنى أن يضع رأسه على كتفي ويبكي حتى آخر العمر .
أول مرة أرى كل هذا الخوف والقلق في عينيه، كان في تلك اللحظة بلداً مزدحماً بالأحزان.
قال كلمات مختصرة، بأنه في خطرٍ كبيرٍ هذه المرَّة، فقد نجا من كمينٍ أمنيٍّ مُحكمٍ بشكلٍ غامض؛ هو مُتأكدٌ بأنَّ عملهُ في الثورة قد كُشِف، لكنهُ ما زال يُراهن على غباء أبناء المؤسسة الأمنية وعدم التنسيق بين الأفرع المختلفة، وحاول صُنع ستارةٍ تحميه من مراقبتهم المتوقعة له، بتغيير مكان السكن والتوقف عن بعض اللقاءات الحسَّاسة، نصحته بالهرب خارج البلاد، لكنه انفعل وعاد إلى فراس الذي أعرفه، وقال بلهجة حازمة بأنه لن يرحل عن هذه المدينة، سيبقى، فلديه رسالة، ولم يبلغها بعد..
لم أستطع أمام هذا الالتزام والحس بالمسؤولية الكبيرين إلا أن أقول له : كن بخير…
بعد هذا اللقاء لم أره حتى اللحظة، ولم يره أحدٌ آخر، انقطعت أخباره، وأنا اعتقلتُ خارج العاصمة بسبب أمرٍ آخر لا يخص فراس، وبعد خروجي من المعتقل بدأت البحث عنه، لم يكن قد تبقى في البلد من أصدقائنا سواه، والذي عرفته بأنه اختفى في ركن الدين، حيث تزامن ذهابه للقاء بعض الناشطين هناك مع دخول حملة اعتقالاتٍ عشوائيةٍ في الحي.
اختفى فراس، واختفت حقيبة كتفه الصغيرة بكل ما فيها من وطن، ولم يبق منه سوى ما حافظتْ عليه ذاكرتي من كلامه وضحكاته، وبكائه..
صديقي فراس.. لا أخفيك بأني أحياناً أشتم كل شيءٍ، لماذا دفعنا كلَّ هذا الثمن، لماذا لم يبقَ لنا أحد، ونحن ناضلنا لأجل كل الناس، ولأجل أنفسنا؟؟
تابعت البحث حتى حصلت على رقم هاتف خطيبته والتقينا، في نفس المقهى الذي التقيت به فراس قبل عامين..
المقهى مستورٌ وبعيدٌ عن عيون المخبرين والعسس، فأنا معتقلٌ سابق، وهي الآن موظفة في مؤسسة أمنية للنظام..
كم تغيرنا.. كم تغيرت الناس..
_ كيف ؟ .. أنتِ ! وتكونين في هكذا مكان وهكذا عمل؟؟!
_ الأزمة طالت، ويجب أن أبقى، ولكي تبقى في هذه البلاد عليك أن تختار خندق الأقوى، وأنا طبيعياً اخترت الأقوى، لكن قلبي رحل مع فراس…
انتابتني الغصة من جديد، ولا أخبار عن فراس، ولا أنصحه بأن يظهر الآن ويرى حبيبته صاحبة الصوت الرائع وأغاني الثورة، وما وصلتْ إليه الآن..
أهله غابوا بسبب إبادةٍ طائفيةٍ، ارتكبتها (داعش)، ولم يبقَ منهم سوى أخته وهي لاجئةٌ في السويد، ولا تمتلك أية معلومةٍ عن أخيها..
لم يبق له أحدٌ في هذا البلد…
لم يبق لنا أحد يا فراس…
أكثر من عامين، عمر غيابك، وعمر الحلم بلقائك.
هل سنلملم أغراض سكرتنا في غرفتنا الصغيرة في الشيخ سعد، ونضع أيدينا ثملينِ على أكتاف بعض، وحبيبتكَ الجميلة تغني للشيخ إمام ( شيد قصورك) ….؟؟!!
صديقي فراس.. لا أخفيك بأني أحياناً أشتم كل شيءٍ، لماذا دفعنا كلَّ هذا الثمن، لماذا لم يبقَ لنا أحد، ونحن ناضلنا لأجل كل الناس، ولأجل أنفسنا؟؟
هل كُنَّا مخطئين في اختيارنا؟
لا تَلُمني يا صديقي، ولا يَلُمنيَ جرحكْ، لا يَلُمني دمكَ الغالي إن تساءلت وكفرتُ بثورتنا، ستقول لي: “كُنَّا نعرف منذ البداية بأننا ذاهبون في نفقٍ دمويٍّ، وأنَّ القصة لن تتغير عن مجراها وحقيقتها التاريخية والموضوعية لإسقاط الطاغية”، ولم نخف،ومضينا، ولكن ألا يحقُّ لنا أن نبكي قليلاً ؟
نبكي سوياً..!
أشتاقكَ يا من صنعت ثورةً حقيقيةً في قلبي، لن أنساك وسأبقى في انتظارك، وسأكمل ما بدأناه، بحق دمكَ، سأكمل، وفي يوم لا أراهُ بعيداً، عندما تنتصر ثورتنا، لن ينساك قلمي كما لم ينسك قلبي…
ولكني لا أرى مناسباً لي ولذاكرتي في هذا الصباح الشحيح الضوء، سوى أن أحضن صدري وأعود للنوم وأنا أرددُ في أذن ( رامبو):
” مسلحين…بصبرٍ متأجج…سوف ندخل المدن الرائعة”
الشهيد.. علي. ع..