كوابيس الحرب، تخاف الجنيات
نعيش الحرب، تعيشنا أيضاً، نقتلها ببعض الأحيان، وتقتلنا في غالبيتها، مضت ثمان سنوات، والدم يرسم ملامحنا الجديدة، لتتناسب مع شكل الرصاص والمدافع،
فنبدو جزءاً من صورة مؤلمة في مكان ما من عالم لا يكفّ عن المطالبة بحقوق الإنسان وصناعة الأسلحة أيضاً.
لكم أدركت خوف الأيام من مجهول يتربص بها، وينتظر ببال طويل لحظة انقضاضه على لحظات السعادة، التي ربما ستعيد بها رونقاً جديداً تضفيه على الزمان القادم لهذه البقعة الجغرافية التي تسمى سوريا.
يمضي الوقت، والحرب ما تزال تمارس الترحيل القسري على أولادها، دون اكتراث بعددهم، بشكلهم، بأعمارهم، بأعمالهم، بأمهاتهم، يمسك الشهداء بأيدي بعضهم ويركبون مع أول يوم مغادر عربة بلون أحلامهم الخائبة.
لكم حلمت بالاستيقاظ في صباح لا يشبه صباحات معتادة، ألفت مرّها مع فنجان قهوتي، وأنا أسمع فيروز تغني للماضي الجميل، الذي يعكس الشكل المناقض تماماً لصباحات بلدي.
لكم وددت لو أستيقظ بغير وجه، بغير تاريخ، بغير مكان، وغير هوية، دون ذاكرة شهدت فيها تحطم الشمس، التي علقت صورتها على جدار المستقبل.
تغني فيروز .. تعا ولا تجي ..واكذب علي .. الكذبة مش خطية ..
تغني فيروز لكل شيء انتظرته ولم يأت، بلاد حرة، حب حقيقي، أطفال يكبرون، آباء متقاعدون، يمسكون مقود سياراتهم، ويرحلون رحلات سياحية، وهم يقطفون ثمرة أعمالهم ونسلهم الصالح، ولكن الحرب رفضت، وتركت فيروز تغني لتفجعنا بحقيقة واقع أبت أن نعيشه كما ننتظر.
لعلي أحتاج كذبة صادقة تجعلني لا أكف عن الحلم، لربما صادفتني معجزة عابرة أغير فيها كل ما مضى.
كم أحتاج جنية بعصا سحرية تنتشلني من كل تلك الكوابيس، التي لا تكف تدوّر بطبشورها هالات سوداء، على محيط مقلتيّ، كزوبعة تسحبني نحو العتم الأبدي ..
لكم يبدو المشهد رائعاً، لو استبدلت الجنية تلك الجثتين اللتين ارتميتا تحت نافذتي في العام 2011، وهما تقطران دماً، بصورة لرجلين آتيين من سوق المرجة في باب السباع، يحملان أكياساً من الطعام، والخضار، وهما متجهان إلى أسرهما، التي تنتظر أن تشاركهما وجبة الغداء.
لا أطمع بكون مثالي، أقبل فيما لو استطاعت الجنية أن تجعل أحمد، ذاك الصبي المزعج، مستمراً في لعب كرة القدم، أثناء موعد قيلولتي، بدلاً من إقناعه بلعبة الاختباء على سطوح المنازل، و هو يحمل سلاحاً أثقل من كرته، ليقتل، و هو يظن نفسه يلعب لعبة الكونتر على الكومبيوتر .
وذاك الشاب ذو السمعة السيئة، الذي كان ينتظرني لأخرج من منزلي، ليتبعني، ويحاول مضايقتي بشتى السبل، أقبل لو أن الجنية تغير مجرى حياته، وتمنع قتله، وهو معلق على خشبة في شارع الستين في حمص، لأسباب أشك أنه كان مذنباً بها.
ماذا لو استطاعت الجنية، أن تعود بصديقي سمير إلي، وأن تغير ذاك الشريط الأسود الذي يلتف كالثعبان حول صورته، إلى شريط جائزة تقديرية حصل عليها في البنك الذي كان يعمل به، وماذا لو قامت الجنية بتحويل جميع البيانات الطائفية إلى ورود تدعو للسلام.
وتلك المعتقلات التي أكره اسمها، لو قامت الجنية باستبدالها بمكتبات ومنشآت ترفيهية وعلاجية، بدلاً عن كونها أبشع صور الجحيم.
لكم يبدو المشهد رائعاً، لو استبدت الجنية تلك الجثتين اللتين ارتميتا تحت نافذتي في العام 2011، وهما تقطران دماً، بصورة لرجلين آتيين من سوق المرجة في باب السباع، يحملان أكياساً من الطعام، والخضار، وهما متجهان إلى أسرهما، التي تنتظر أن تشاركهما وجبة الغداء.
أنا بأمس الحاجة لجنية تعبث بذاكرتي، تحمل إبرة سحرية، تخيط كل تلك التشققات التي تسمح للكوابيس بالتسلل إلى نومي.
أتعبني ذاك الأرق المألوف المشظى بآلاف مؤلفة من الأحداث الدامية وأنا مجبرة على الاستيقاظ والمشاهدة.
في دولة لا أذكر اسمها قام العلماء بتجربة على قاتل متسلسل، لقد أجبروه أن يشاهد أفلاماً مرعبة، و مشاهد دموية دون انقطاع، دون السماح له بالاستراحة .. وكانت النتيجة، أن توقف المجرم عن الرغبة في القتل.
لعل الحرب تريد أن تدخل الإنسانية في نفس التجربة، وتجعلها تشاهد ماذا باستطاعة الإنسان أن يفعل، وللأسف، كنا نحن فئران مختبرها.
دخلنا المختبر ببلادنا، بأطفالنا، بنسائنا، برجالنا، وحتى بحيواناتنا، لقد كنا جديرين بتجسيد أبشع الصور خلال فترة زمنية قصيرة، دون ملل، أو انقطاع، دون اكتراث بأنهار الدم التي شكلناها بأجسادنا.
مرغمين بكامل إرادتنا على انتاج المزيد من التجارب، وها نحن نلد، ونقتل، نحب، ونكره، نحنّ، ونقسو، نرفع شعارات سامية، ونقوم بإحراقها أمام أول راية لا تشبهنا.
نحن قادرون على الحرق، والقتل، والذبح، إن استطعنا، غير مبالين بتاريخنا وثوراتنا وثقافتنا.
نركض جامحين، كثور هائج، نافق، يقتل كل ما حوله لأنه يظن أن ما حوله بشكل أو بآخر قد يقتله. لون الدم يثير شهوتنا الوحشية لنركض ونركض فنقع ونحن غارقين في دمائنا.
الحرب تضحك ضحكات، كانت معدة كوجبة فطور لأطفالنا، لعل الحرب ماركة مسجلة، لمعمل أسلحة يسوّق لنفسه بطعنات معداته في قلوبنا الهشة.
أذكر جيداً رائحة الديناميت في منزلي، وأذكر أيضاً وجه أمي، وهي تعجز أن تكون لبوة تحمي أطفالها، أذكر العجز الذي كان يعتري أبي، وهو مدد في فراشه، بعد أن تلقينا هدية صغيرة من معمل الحرب، أداة تسمي نفسها “قذيفة”.
الحرب تخاف الجنيات، والسحر، تخاف براءة الأطفال، وضحكاتهم، فهم جنياتنا الصغيرة التي تنام قريرة الأعين، وهي تحلم باللعب، لا يهمها كم أنتجنا من الدمار، وكم صنعنا من الوحوش، لا يعنيها كمّ الأسلحة، ولا تفهم المصطلحات الطائفية والقومية، لا تكترث إن لعبت في شارع تسكنه الموالاة أو المعارضة، أو حتى الجماعات المتطرفة، جنياتنا السحرية الصغيرة فقط، وببساطة لا تكترث للحرب.
لعلني إن فكرت كم من جنية سحرية أملك في بلادي، سأستطيع أن أغفو، وأنا أحلم بغد أفضل وذاكرة معافاة.
على الطرف الآخر، تتابع فيروز الغناء، وفنجان قهوتي ما يزال يأبى السكر في جوفه، أيضاّ تتابع الحرب جولة أخرى، وكابوساً آخر… فهل هذه المرة سأنتصر؟؟