
جلستُ فوق كرسيّي المتواضع، كفّايَ معقودتان تحت ذقني، واتّكأتُ على مرفقيّ إلى طاولة مكتبي البسيط، أمام أكوامٍ من ورقٍ متكدّسٍ فوقها وحواليها، يحاكي ورق الخريف تحت الشجر، ويحكي أحلام عمرٍ من الألم والضياع والتشرّد، وذكريات ذاكرةٍ مثقوبةٍ عن وطنٍ مستباحٍ، وجنوبٍ يحطّ رحاله في تلافيفها… «وعشقُ التراب حطيط الرحال»…
الشجر الذي يودّع خضرته وبهاءه ويتعرّى لحمّام الشتاء الطويل، غير آبهٍ بالصقيع والثلوج، الآتية من الغرب، على أمل قيامةٍ جديدةٍ وربيعٍ قادمٍ يعيد للحياة بعضاً من أحلامها، وبعضاً من ملامح إنسانية تساقطت بتساقط القيم وانحلالها بماء العفونة والتفسّخ، ناسياً أو متناسياً ندوباً وأثلاماً وآلاماً تركها الرصاص والخراب والمعتقدات المنقوصة والمتهالكة، واجتاحتها الوحوش البشرية بفؤوسٍ وحرابٍ مسنونةٍ ومثلّمة.
الغرب الذي صبغ الألوان على حياتنا، مبهجةً حيناً، وسوداءَ قاتمةً في أحايين كثيرة. يرانا ويريدنا بشراً متساقطاً كأوراق الخريف، تدوسه البساطير العسكرية وجنازير الدبابات.
“ثروت”، فتاة الخمسة والعشرين ربيعاً وصيفاً، كشروق الشمس لحظة ارتعاف الشعاع، الذي تتلقّاه قريتها “الشبِكي” الجبلية المطلّة على حماد “السويداء” الشرقيّ… كبوح الندى لبتلات الجوري على مدخل بيتها لحظة الفراق.
وعدتُها أن أكتبها قصةً، وأن أغزل من حكايتها حياكةً تليق بالجرح الفاغر والقلب المكلوم، لحظة عبورها مكتبي على غفلة من بابي المشرع، تحمل جرحها النازف قهراً، وخيط دم من جبينها لم يجفّ بعد يتغلغل طيّات قلبها الملتاع.
وها أنا ذا، ألفّق لوعدي الكاذب بالقصة المستباحة، وأسردها خيط بوحٍ لا يرقى لآلامها وعذاباتها.
بين حلمٍ وحقيقة، طيفٌ يعبر أفق هواء غرفتي الملوّث بدخان سجائري ورطوبتها، عينان تشعّان بريق عتبٍ ولوم، تحمل قصّتها بيديها المحناتين بدمها المنساب من مكان رصاصة الداعشيّ الغادرة في رأسها، التي اغتالتها قبل خريف، وتقول:
– عدني بأن تكتبني قصّةً، لأنك كاتب وشاعر.
– أعدك، ولكن ماذا سأكتب؟
– كمموا فمي مع خيوط الفجر الأولى، وأنا ما زلتُ في سريري أحلم، وربطوا يديّ خلف ظهري، قبل أن أصحو على المشهد الذي أخذ صحوي. ثلاثة وحوش يقطر العفن من لحاهم الطويلة، أبشعهم منظراً يحمل حربته الغادرة، ما زال يقطر منها دم أبي، الذي تلقى طعنته الغادرة في الصدر، وخرّ صريعاً أمام الباب المفتوح دوماً لاستقبال الضيوف، حين نادوه باسمه وخرج لاستقبالهم مرحّباً. الحربة المثلّمة في يد الثاني يقطر منها دم أمي المكمّمة، وقد فصل رأسها عن جسدها، حين ذبحها أمامي كخروف العيد.
– وهل تستطيع اللغة أن تعبّر عن هذا الدم المغدور؟
– الدم المغدور يكتب الحقيقة بلونه الأحمر.. هل تظنّ إن لم تستطع لغتك الكتابة، رغم أنها كتبت تاريخ آلاف السنوات من القتل الدماء، أن أنسى حكاية أمي وأبي المذبوحين أمامي؟ أو حكاية اقتيادي إلى مدرسة القرية بجوار بيتنا كنعجةٍ فقدت راعيها، لأجد عشرات النعاج المربوطة أمامي، وعشراتٍ أخرى اقتادوها بعدي، لنصبح أكثر من مئة معظمنا من النساء والأطفال وبعض الفتيان والفتيات؟
– من له مصلحة في فعل هذا؟
– خمسون رشاشاً وبندقية وقنّاصة بيد الوحوش الغادرة، دخلت القرية تحت جنح الظلام. ذبحوا المئات فجراً، واقتادوا المئات مكبّلين مكمّمين إلى المدرسة رهائن.
– ما هدفهم من سيل الدماء هذا ومن اقتيادكم رهائن؟
– القصة طويلة وشرحها يطول. سمعتُ أجناد الدولة الإسلامية في العراق والشام أكثر من مرّة يتحدّثون عن هذا، قالوا إن هدفهم كان السيطرة على محافظة “السويداء” كما فعلوا في محافظة “الرقة”، ودخلوا القرى السبع الشرقية منها واحتلّوها، لينطلقوا منها إلى باقي منطقة الجنوب السوري، لكنّ السيل الجارف من البشر العزل الذين واجهوا الموت بشجاعة نادرة، في القرى السبعة والقرى القريبة منها، أجبرهم على الفرار بعد أن تركوا مواقعهم والمئات من رهائنهم. كنا ثلاثين رهينة من النساء والأطفال، احتموا بنا كدروع بشرية، وهم يولّون الأدبار شرقاً إلى جحورهم في بادية المحافظة.
– وعن ماذا سأكتب أنا؟
– عن أبي وأمي المذبوحين على عتبة منزلنا.. عن عمّتي التي أردوها قتيلة برصاصهم شرق القرية، لأنها مريضة ولم تستطع متابعة السير، وكيف حاول الداعشيّ جرّها رغماً عنها، وقتلها لأنه ظنّ أنها تدّعي المرض، أو ليشبع رغبته في الإجرام، ورؤية الدماء البشرية لضحيّته تحنّي وجهه ولحيته.. عن ابن عمي “مهنّد” ذي التسعة عشر ربيعاً الذي ذبحوه أمامي بعد عشرة أيام من اختطافنا، ليفرضوا مطالبهم في إطلاق سراح سجنائهم عند النظام الذي يفاوض من موقع قوّة المنتصر وهو غير آبه بنا وبمصيرنا.. عن امرأة عمي “ثريّا” أكبر الرهائن عمراً البالغة خمسة وستين عاما مريضة القلب والسكّر، التي ماتت بعد “مهنّد” بأسبوع، لأنها امتنعت عن أخذ دوائها حزناً عليه….
الدم المغدور يكتب الحقيقة بلونه الأحمر
عنّي أنا، التي كنت أنتظر ذبحي بالسكين “الآلة الأرخص في تاريخ نحر البشري للبشري” كما ذبحوا ابن عمي “مهنّد”، شهران وأكثر وأنا أغرق بالكوابيس، ولا أعرف النوم والطعام والشراب، حتى أصبحت “كظلٍّ يقف على قدمٍ واحدة”.. أنظر كيف أطلقوا رصاصتهم على رأسي من الخلف بعد أقل من ثلاثة أشهر على احتجازنا وإذلالنا، كأننا لسنا بشراً، مع أنهم كانوا هم الوحوش التي تخجل حيوانات الأرض بأنواعها عند تشبيههم بها.
– إذاً لم يعاملوكم معاملة حسنة كما سمعتُ في الفيديو الذي تحدثّتِ به قبل استشهادكِ بأيام قليلة؟
– معاملة حسنة؟ كل من يعارض أفكارهم أو ينتقدهم أو لا يطيع أوامر “أجناد الخلافة الممهورة بالدم السوريّ والعراقيّ”، هو عندهم كافر لا يستحقّ إلا الذبح، حتى لو كان مسلماً، ولا فرق عندهم إن كان موحّداً أو سنّياً أو شيعياً أو مسيحياً…. ولا حتى إن كان ملحداً. لكن من هم هؤلاء المتوحّشون؟ ولماذا يشوّهون الدين على هذه الصورة، يقتلون باسمه ويزنون ويسبون ويرتكبون أبشع الموبقات؟
– هم شذّاذ آفاق بعقول مريضة، جمعتهم مخابرات العالم وزعماؤه، من كل بلاد الله الواسعة، ليصنعوا منهم آلة تفتك بالبلاد التي يريدون خرابها وسرقة خيراتها، وليشكّكوا بكل القيم النبيلة، وليجتثّوا قيم الخير والمحبة من النفوس.
– وكيف توافق أنظمتنا على بقائهم وتسكت عن تنفيذ مخططاتهم؟
– وكيف نكون عبيداً لهذه الأنظمة، إذا لم يكن هناك تنظيمات متوحّشة يهدّدوننا بها؟ من يخرج عن طاعة وليّ الأمر ويرفض العبودية ويطالب بالحرية والكرامة والعدالة، يُترك بلا حماية من هذه الوحوش الضارية.. هل علمتِ لماذا توجّهت داعش إلى “السويداء” الآن أيتها الشهيدة الحيّة؟
ظهر الحزن جليّاً على محيّاها الجميل، وبدأ الطيف يغيب في عتمة المساء، منسحباً على غفلة من نافذة غرفتي الرطبة، كما جاء غفلةً….
ناديتها أسألها: هل أكتب القصة وتريدين رؤيتها قبل نشرها؟ لكنني لم أسمع جواباً.
هرعتُ إلى النافذة ونظرتُ خارجاً، كانت أمام نافذتي المشرعة للريح، آلاف الأشعة والطيوف، تلتفّ حول طيفها الساحر، وتبتعد متلألئةً بين نجوم السماء.