عندما احتفلوا بمصيبتنا..

لم تغب عن مخيّلتي تلك الضحكات وملامح الفرح والبهجة، إنه يوم عيدهم، يوم انتصر حقدهم علينا، و على الضفة الأخرى من ذلك المشهد، بكاء وفراق، رجال يودّعون أطفالهم وعائلاتهم، وآخرون يودّعون أرضهم ببضع سجدات، إنها صلاة الوداع، حين تلامسها جباههم لآخر مرة.
في ساعات فجر ذلك اليوم، قبل عام كامل، لم تكن كغيرها من الساعات، كل دقيقة منها تمرُّ كأنها سنة، كنّا قد هممنا على الرحيل أنا ومجموعة من الأصدقاء، في أول دفعة تهجير من محافظة درعا، بعد يومين من الحيرة وتشابك الخيارات، وانحسار الأمل بشيءٍ يغيّر المصير المحتوم، أو معجزة تُعيد بنا الزمن إلى الوراء، خياران لا ثالث لهما ولا مفرّ منهما، إما البقاء ومواجهة المجهول والعيش في ظل نظام الحقد، أو أن تخرج مكرهاً مبعداً عن أرضك، كلاهما أمرّ من الحنظل.
قبل ثلاث ساعات عن موعد حضور حافلات التهجير إلى مدينة درعا، قرّرت البقاء، لا أعرف لماذا حينها وكيف طرأ علي هذا التغيير المفاجئ، في الصباح أخبرت أصدقائي بقراري، بدت علامات الاستغراب على وجوههم، لكن في ذلك الوقت كان كل شخص يتحمل مسؤولية قراره، لا مجال لإبداء الرأي أو الإقناع، فلا أحد يعلم ما قد يحصل وما هو المصير، فأقدامنا وعقولنا كانت تسير نحو المجهول.
قال لي أحدهم: “ما رح نحكيلك شي، لكن هاد قرارك وانتا بتتحمل مسؤوليته، أمّا نحنا طالعين وألله يكتب الخير للجميع”.
لم أجد جواباً وقلت: “آمين”.
مع وصول الحافلات إلى مكان التجمع، ذهبت لتوديع من همَّ بالرحيل. كانت الوجوه شاحبة، مصفرّة، كأنهم أموات يمشون، و عائلاتهم تسير لدفنهم، ما هي إلا لحظات حتى ارتفع صوت البكاء، حتى الرجال لم يكن عليهم ذلك أمراً سهلاً، الدموع والوداع سيدا الموقف، التفتُّ إلى الجانب الآخر من الحاجز العسكري الذي تجمعت عنده الحافلات، كان عناصر النظام في أفضل حالاتهم، يسترقون الضحكات والإشارات على بعض من أجهش بالبكاء، لم أتخيل هذا الموقف في يومٍ من الأيام، لكن ذلك ليس غريباً عن من كان يرقص على الجثث، ويتلذّذ بالتعذيب، لم أستذكر في ذلك الوقت إلّا كلام القائد “أبو الفرات” رحمه الله، عندما قال أنه “يحزن لكل قطرة دم تُسفك وحتى من أولئك الذين يدافعون عن النظام”، شتّان بين هذا و هؤلاء.
ومع التجهيز للانطلاق إلى الشمال السوري، فجأة عدلَ أحد أصدقائي المقرّبين عن قراره، واختار البقاء معي، وهو الذي أصرّ على قراره عندما علِمَ أنني لن أخرج، أحسست حينها أنني تحمّلت مسؤوليته بهذا الخيار، لكن ليس لدينا متسع من الوقت للحديث والجدال، انطلقت الحافلات وغادر الأصدقاء والأحبة، لا ندري أبعدَ هذا الوداع لقاء، ما يدرينا، يبقى الإنسان جهولاً بقضاء الله وقدره.
بعد ساعات على مغادرتهم، إحساس بالفراغ، أفكار تدخل وأخرى تخرج، تخبّط جديد، حيرة كبيرة، بقيت على هذا الحال على مدار يومين، كان كل شخص تحدثت معه يسألني لماذا لم تخرج، وماذا تنوي أن تفعل، هي ذاتها الأسئلة التي يسألها كل شخص للآخر في هذه الفترة، أتذكر جملة قالها صديقي “السؤال عن الخروج أو البقاء أصبح كتحية السلام عليكم بين كل شخصين”.
وفي الوقت الذي كان فيه سكان بعض المناطق في درعا يتجهّزون للخروج في قوافل التهجير، بدأت أخرى بتطبيق أولى بنود الاتفاق بين فصائل درعا وروسيا، وهو تسوية أوضاع مقاتلي المعارضة والمطلوبين للنظام من خلال مقابلة عناصر النظام للحصول منهم على المعلومات الرئيسية وتوقيعهم على أوراق التسوية، لم أفكّر في ذلك الأمر من قبل، ولم أتخيل نفسي واقفاً أمام ذلك الشخص الذي يلبس بدلته العسكرية ويضع صورة بشار الأسد على ذراعه، في موقف كأني أطلب منه العفو، هي تلك الأفكار التي دفعتني بكل إصرار على تعديل قراري من جديد، بالخروج إلى الشمال السوري، حتى وإن كانت تنتظرني هناك خيمة مهترئة، أو أن أجلس تحت حمم الطائرات الروسية والسورية، فذلك أفضل عندي أن أقف في ذلك الموقف وأنا أوقع على طلب العفو من النظام.
بدأت بعد ذلك البحث عن معلومات حول دفعات التهجير المرتقبة، وأي الأماكن التي سوف تخرج منها، حيث أن النظام رفض أن يبعث حافلات للتهجير مرة أخرى إلى مدينة درعا، فمعظم الراغبين بالخروج إلى الشمال السوري كانوا يتجمعون في مناطق معينة ويسيرون على شكل جماعات بسبب انتشار الحواجز العسكرية وتقطيع أوصال المحافظة، وكانت بعض الحواجز تعيق حركة السكان وتمنعهم أحياناً من الوصول إلى المناطق التي كانت تخرج منها الحافلات، حتى أن كثيراً منهم لم يتمكنوا من الخروج واضطروا إلى البقاء في المحافظة.
بتاريخ 23 تموز من العام الماضي، كنا على موعد للخروج من مدينة درعا باتجاه بلدة الجيزة شرقا، حيث كان من المقرّر أن تخرج من هناك دفعة من حافلات التهجير إلى الشمال، أنا وعائلتي، وانضم إلينا صديقي وعائلته، هو ذاته الذي كان قد قرر البقاء معي في درعا، خرجنا مع ما تمكنّا من حمله من أمتعة، ومن بينها كانت معدات التصوير وبعض الأجهزة الالكترونية، وضعتها بين الملابس وفي حقيبة زوجتي الخاصة، بعد أن علمت أن التفتيش لن يكون دقيقاً ويُسمح لنا باصطحاب معداتنا معنا.
إنها اللحظات الأخيرة لنا في تلك المدينة، في الطريق بدت لي درعا أجمل مدن العالم، أتمعّن في كل شبر تسقط عيني عليه، لطالما حلمت في صغري أن أسافر وأرى العالم، أرى أبنية غير هذه الأبنية، أرى معالم غير هذه المعالم، والآن جاءت الفرصة، لكن.. ليس بهذه الطريقة، وليس في هذا الوقت، وليس في هذه الحافلة، ذلك اليوم ذقت مرارة الحياة بأقصى درجاتها، تركت خلفي روحي لتبقى مع أولئك الذين كان وداعهم جريمة ارتكبتها بحقّي وبحقّهم، لكن لن أقف ذلك الموقف، لن أطلب العفو منهم، فجأة ينقطع ذلك التفكير مع توقف السيارة، أمامنا حاجز قبل الوصول إلى مكان انطلاق الحافلات، يطلبون منا النزول وإخراج الحقائب للتفتيش، لم نخبرهم بأننا ذاهبون للخروج في قافلة التهجير، خشية أن يمنعونا وبذلك لن يبقى لنا أي وسيلة للخروج، حيث أنها كانت الدفعة الأخيرة التي تخرج من درعا.
إنه الحاجز الأول الذي أمرُّ به منذ سنوات، إنها اللحظة الأولى التي أواجه فيها جنود النظام عن قرب منذ سنوات، لا أخفي خوفي، كما أنني لا أخفي كم من الأدعية التي قرأتها حينها كي نمرّ منهم بسلام، أنزلنا الحقائب وطلبوا تفتيشها، بدأت أفتح لهم بعضها بطريقة أحاول فيها الاستعجال وإظهار أن ما بداخلها أمتعة شخصية، بعد أن أخبرناهم بأننا نازحون عائدون إلى قريتنا، لكنهم على ما يبدوا لم يقتنعوا بذلك، أفرغوا الحقائب وكان تفتيشهم دقيقاً جداً، هنا بدأ الخوف يزداد، خاصة وأن بعض معدات التصوير في هذه الحقائب، وما هي إلّا لحظات حتى وظهر فيها درع الصحافة مع أحد الجنود، ثم جهاز الإنترنت الفضائي، ثم الحاسوب المحمول، إلى أن ظهرت معظم معداتي.
نظر الضابط إلينا أنا وصديقي وسألنا: لمين هي المعدات؟
أجبت: ما منعرف، عائلة من ريف درعا الغربي سلمتنا هي الحقائب وطلبوا منّا تبقى معنا، وبس نوصل رح يجي شخص ويستلمهن، وما فتحناها لأن كنا مستعجلين.
أعاد السؤال ذاته الضابط، وأجبته كما سبق، فطلب بطاقاتنا الشخصية، ودخل إلى البناء المجاور للحاجز الذي اتخذوه مقرّاً لهم، في هذه الأثناء كانت زوجة صديقي قد تظاهرت بالتعب والإغماء، في محاولة منها لاستعطاف جنود الحاجز للسماح لنا بالمرور، لكن لم تنجح المحاولة ولم يتأثّروا بذلك، طلبوا منها الجلوس في السيارة والانتظار، وإذ بصوت الضابط يطلب منا الدخول إلى غرفته.
سأل: مين ياسر الخطيب
أجبته: أنا ياسر
قال: “خليك هون بدنا ياك” وطلب من صديقي وسائق السيارة إكمال طريقهم، ومن عناصره مصادرة المعدات.
في هذه اللحظات كان قد سيطر الخوف على جسدي، كنت بحاجة لقطرة ماء بعد أن جفّ فمي، لكني لم أقطع الأمل بعد، لا زالت الأدعية تتردّد في عقلي، للحظة توقعت أن يغادر صديقي والسائق، لكنهم بدأوا المناورة في محاولة لاستعطاف الضابط، وبدأت بتكرار إجابتي وأنه ليس لي علاقة بهذه المعدات، كان الضابط يحدّق صامتاً يحاول استكشاف الحقيقة.
حتى جاء أحد عناصره وقال: سيدي لا تصدقهم، عم يكذبوا علينا على أساس مو عارفينهم، هدول جماعة التنسيقيات.
ردّ عليه الضابط: طيب اطلع وقف على الطريق.
هنا استغربنا ردة فعل الضابط على العنصر، ولم نعلم ماذا يريد بذلك، حتى قال لنا أنه يجب أن نحلّ هذا الأمر، فهو يريد أن يسمح لنا بالمرور، لكن تعذّر بأن عناصره رأوا ما لدينا من معدات ويصعب عليه إقناع عناصره دون مقابل، عند ذلك توضّح هدفه، وهو الحصول على المال، فكان ذلك هو الفرج لنا، أخرجنا ما معنا مال، قدّرتها بحوالي 25 ألف ليرة، طلب منّا بعد ذلك المغادرة فوراً بحقائبنا، انتهت المحنة وما بقي أمامنا إلّا الوصول إلى الحافلات.
هناك أيقنت أن الخروج إلى الشمال ضرورة، وليس فقط مجرّد خيار، لن أعود وأمرّ على ذلك الحاجز مهما كلّفني الأمر، لا أريد رؤيتهم مرة أخرى.
ومع حضور الحافلات، كنا على موعد مع تلك الابتسامات ومعها الإشارات البذيئة ذاتها التي كنت قد رأيتها في دفعة التهجير الأولى من مدينة درعا، يحتفلون بتهجيرنا، كما احتفلوا من قبل في تهجير سكان مناطق أخرى من سوريا، خرجت وبرفقتي سؤال لم أجد له إجابة حتى الآن، كيف كنا نعيش مع هؤلاء في بلدٍ واحد؟!.