حلم صالح
“فاطمة” وأنا نشأنا معاً…
منذ المرحلة الابتدائية، حين كان مقعد الدراسة يجمعنا، كانت تُسرّ لي بحبها لابن عمها “صالح”، وتحكي لي عن كل ما يدور بينهما من لعب، وعن بعض الخناقات التي تبدأ بالشتائم ولا تقف عند شدّ الشعر.
كانت تسترسل وهي تحكي لي عن يوم العطلة، حين يلعبان معاً تحت أشجار الكرم الملاصق لبيتهم، ويبنيان عش الزوجية من حجارة صغيرة وأوتاد، ويقلدان الكبار في ترتيب البيت، وتجهيز الطعام وتبديل الثياب، والنوم في الفراش… تنام بحضنه، ويغمر جسدها الصغير وكأنه رجلها، ليستيقظا بعد قليل.. يختلفان على أمور تافهة، ويتساببان، ثم يتعاركان كوحشين صغيرين، أسداً جامحاً، ولبؤة شرسة، ولا ينفضّ اشتباكهما إلا بتدخّل أحد الآباء أو الإخوة الكبار.. لكنهما يعودان بعد ساعة إلى اللعب وكأن شيئاً لم يكن.
كان “صالح” يكبرنا بعام واحد، وصف واحد، وكنا نلعب في كثير من الأحيان نحن الثلاثة معاً. نتشاجر حيناً ونتّفق عليه، فيتركنا ويلتحق بأولاد الحارة الذين تجمّعوا على الطريق وفوق البيدر المجاور لبيتهم، ليلعبوا بالكرة أو “الخريطة” أو “السبع بلاطات” أو “بَنِيّة الرُّقق” أو “قفْزَ العنز”… وحيناً يتّفقا ضدّي، فأتركهما وأنصرف إلى ابنة عمي، لنصنع لعبة “الست بدور” من العيدان والخيطان وبعض قصاصات القماش وأكياس النايلون والأزرار.
بكتْ “فاطمة”، حين كان يروي لنا “صالح” حلماً مزعجاً، أيقظه من نومه الهانئ على سطح المنزل، في الصيف الذي نجحنا فيه إلى الصف الخامس، وهو إلى الصف السادس.. حَلِمَ برصاصة بندقية تخترق ظهره، فيسقط على وجهه ودمه يفور، ومدّ يده يتحسس ظهره، ويشعر بألم شديد، وكأن الرصاصة قد اخترقت ظهره فعلاً. وأنا بكيت.
روى لي “صالح”، بعد عامين على تركه للدراسة في الصف التاسع، كما فعلت “فاطمة” قبله بعامين، حين لم يسمح لها أهلها بالانتقال إلى إعدادية ناحية “المشنّف” المجاورة، أو إلى إعدادية قرية “سالة”، التي درستُ فيها أنا و”صالح”، قبل افتتاح إعدادية قريتنا “بوسان” بعدة أعوام، حيث تتوسّط “بوسان” الطريق بين “سالة” و”المشنّف”، في الريف الشرقي لمحافظة السويداء. روى لي كيف عاوده الحلم الثقيل ذاته، حين استيقظ من نومه فجراً، يتحسس ظهره الذي يؤلمه.. ولم يكن يعلم هل هو من رصاصة الحلم؟ أم من مشقّة العمل المضني؟
كان “صالح” يساعد أباه في حراثة الكرم وتقليمه وتسميده وجني ثماره، كما يستغل فترات الراحة من العمل الزراعي، ليعمل في تحميل أكياس الإسمنت وتنزيلها، في مؤسسة العمران في مدينة السويداء، ليساعد أسرته الفقيرة، كمعظم عائلات ريف المحافظة الفقيرة، التي يعتمد أهلها على السفر داخل البلاد أو خارجها، لكسب لقمة العيش أو لتحسين الوضع المادي.. وهو يشقى ليجمع مهر “فاطمة” أيضاً وتكاليف عرسها.
عندما تمضي السنوات، يحتفل “صالح” (أوسط أخويه) بعرسه، رغم الحالة الفاجعة التي تمرّ بها البلاد، حيث الحزن يخيّم على معظم بيوت المدن والريف على حدّ سواء، بعد سنوات ستة على قيام ثورة الشعب ضد الحكم الديكتاتوري العسكري وأجهزته الأمنية، ناهيك عن خراب أكثر المدن والقرى، بعد أن سحقتها آلة البطش العسكرية للنظام وزبانيته من الإيرانيين والروس، وغيرهم من شذّاذ الآفاق الطائفيين من لبنان والعراق وأفغانستان واليمن وغيرها.. أكلت الأخضر واليابس، وتركت الدمار في كل مكان، والحزن يعرّش فوق القلوب.
تزوج “صالح” و”فاطمة”، في اليوم الذي سُرّحَ فيه أخوه الأكبر من الخدمة الإلزامية التي استمرت ثماني سنوات، حيث كان “صالح” يؤجّل سوقه إلى الخدمة الإلزامية بسبب وجود أخيه الأكبر في الجيش، في حين كان أخوه الأصغر تحت سنّ الثامنة عشرة.. كانت فرحة الأهل والأقارب كبيرة بهذا الزواج، بل فرحت به القرية الوادعة كلها، كأول فرحة عرس في البيت المبني على المحبة والطيبة والأخلاق الرفيعة.
الفرح لا يدوم.. لكن كيف تدوم التعاسة وتستبيح البلاد المنكوبة، كأنها القدر المحتوم إلى يوم الدين؟
تنتهي مدة تأجيل “صالح” عن الخدمة، ويساق إلى إحدى القطعات العسكرية، لم يكمل الشهر مع عروسه الحبيبة على قلبه، التي تتحوّل فرحتها إلى كابوس يُطبق على أنفاسها.. تلوب لتسمع عنه خبراً يطمئن قلبها الملتاع. كنت أزورها في القرية في عطلة نهاية الأسبوع، كما أوصاني “صالح” وأسمع شكواها وأخفف من حزنها وعزلتها.
بعد مدة ليست باليسيرة في حساب العشاق، تأتيها رسالة واتس أب على هاتفها المحمول من رقم مجهول، يقول فيها: «أنا “صالح” حبيبتي.. أنا بخير.. وأخدم في كتيبة المدرعات في دير الزور.. سآخذ إجازة ولو ليومين قريباً، لقد تعرّفت على مفتاح الضابط المسؤول عني، ووعدته برشوة محرزة، لأراك وأعوّض حرمانك وحرماني.. أحبك يا لهفة روحي».
– «غريب، كيف أنهى “صالح” دورة الأغرار، ودورة اختصاص في سلاح المدرعات، والتحق بساحة القتال، ولم يمض على سوقه شهر واحد؟». يتساءل أبوه الحزين على وضعه، ولحاجته الماسة له وقد كان يؤازره في زراعة الأرض وحصادها وجني ثمار كرمه الصغير، كان يفتقده كثيراً، رغم فرحه بسلامة أخيه العائد من الموت المحتّم إلى رحاب الحياة، بعد إصابتين كادت إحداهما تورده حمام الموت، وكتب القدر له عمراً جديداً.
“فاطمة” الحزينة على فراق “صالح” تدخل حالة مرضية، يختلط فيها عذاب النفس وهزال الجسم بالدوخة والاستفراغ. يسعفها عمّها إلى مشفى “سالة”، ليعود بها ظهراً إلى البيت.. تختلط مشاعر الحزن بمشاعر الفرح في نفسه، وتسيل دموعه فوق خدوده وهو يخبر زوجته أن كنّتها حامل.. كذلك تتحوّل الفرحة والزغرودة التي أطلقتها والدة “صالح”، إلى غصّةٍ فنشيج ونحيب خلال لحظات، وقد اجتمع عليها بعض الجيران والأقارب، حين أخذت تردد: «يا ريت “صالح” معنا ليسمع الخبر ويعلم أنه رح يصير أب بعد ثمانية أشهر».
يكمل أبوه: «ليته ذهب إلى لبنان ولم يسلّم نفسه للجيش، كما فعل الكثر من أبناء جيله للتهرّب من الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية في جيش يقتل شعب بلاده… من يعلم كيف يقضي الساعات والأيام في معارك ضارية تدور رحاها حول مدينة دير الزور ويسمع بها القاصي والداني؟…».
لم يكن يخفى على “صالح” الطيب، أن من يرفض قتل المدنيين سيعاقب عقاباً أشد من عقاب المدنيين الثائرين أنفسهم، لكن قلبه لم يكن يطاوعه على ذبح دجاجة، ومطلوب منه هنا أن يذبح أطفالاً وشيوخاً ونساءً ورجالاً، وهو رامي المدرعة التي تقذف حممها على الأبرياء قنابل، ورشاشها يحصد العشرات أمامها.. وكان يجيب الضابط المسؤول عنه عندما يعنّفه على عدم إصابته للأهداف: «يا سيدي لم نتدرب ساعة على الرماية.. كل ما تعلمناه كيف نلقّم ونرمي.. حتى المنظار لا أرى فيه الأهداف..».
زميل “صالح” الذي التقيته في بيتهم، والذي هرب من الخدمة وانشقّ ملتحقاً بإحدى فصائل الجيش الحر، أسرّ لوالد “صالح” بأن ابنه اغتالته رصاصة الضابط المسؤول عنه غدراً، في ظهره عند الفجر حين كان يخرج من المدرعة.. وأنه هو رآه بأمّ عينه، وأنزله من المدرعة ولفه بالعلم ونقله إلى سيارة الإسعاف، ولهذا خاف على نفسه وقرر الفرار من ساحة القتال وأعلان انشقاقه.
“صالح” اعتُبر شهيداً، وتمّ تأبينه في قريته بتسجيل اسمه في سجلّ الخالدين، ولعل روحه الهائمة حول حبيبته ترى كيف تحقق الحلم الذي رافقه صغيراً. كانت “فاطمة” تشقّ ثيابها، وتنتف شعرها بحالة هستيرية، وهي تصيح: «كيف تموت وتتركني وحيدة هكذا يا رزقة قلبي؟».