على قارعة الحرب: أطفال وأحلام يقظة.. ودمىً تنزف أمام المرايا !
نعم.. على أصابعه الجائعة يعدُّ الموت ضحاياه، ويحصي إلى جانبهِ الأطفال والشيوخ، والنساء، وكأنه ينتقي الجثث الطازجة لولائمه اليومية ويرمي للكاميرات والقنوات الفضائية ونشرات الأخبار وأعضاء مجلس الأمن والأمم المتحدة، الضحايا الساكنة، كنخوة الأعراب أمام صرخات المغتصبات. هكذا، وبابتسامته الخبيثة أمام مرايا التاريخ يترك القتلة واللصوص، والذئاب، يخوضون في دماء ما تبقّى منّا !
نراه تارةً خبيراً في العلوم الرياضية يكدّس جثثنا ويجمعها، ومن ثم يقسّمها ويطرح الرؤوس من الأطراف ليحصل على جذر الأجسام الذابلة؛ وتارةً يبدو مثل جاموسٍ ثائر يركضُ في الأزقة داهساً كل من أمامه! هذا الموت الموكّل بحصاد أرواحنا معصوب العينين، والقلب.
- في حلب، داخل زقاق من أزقة حي صلاح الدين، هنالك بيت مؤلف من أربعة طوابق؛ طابقان تحت الأرض، وآخران يطلان على الشارع العام، وقد خصص هذا المبنى كدار لرعاية الأيتام.. تم تأسيسه قبل الثورة السورية، حيث كان معداً لكي يكون مشفى، فقام أحد شباب الثورة في حلب الملقب بـ” أسمر الحلبي” باستغلال المبنى ليجعل منه داراً للأيتام. فأصبح يتسع لــ 25 طفلاً وطفلة، كخطوة أولى، من الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم.
كان الأطفال يجدون في دار الأيتام احتياجاتهم اليومية، وخاصةً الأمان، بسبب اشتداد المعارك والقصف. حيث إن بعض الممنظمات الإغاثية وسكان المناطق والأحياء المجاورة يتبروعون بما هو يسير، ويعتنون ببعض الأطفال الصغار.
في أحد الأيام اضطررتُ أن أبيت في الدار، بسبب خوف الأطفال وبكائهم.
التقيتُ بطفلة صغيرة اسمها “خديجة” لا تتجاوز 14 سنة، وكانت تبكي ولا تستطيع النوم. فسألتها عن سبب قلقها، فقالت إنها لا تحب أن تكون في دار الأيتام، فهي تحب بحسب قولها أن تكون بين عائلتها، تحت كنف أمها وأبيها. فلم أستطع أن أخفف عنها تلك الليلة سوى أنني أخبرتها بأن عليها أن تعتبر نفسها في منزلها، ونحن لها الأهل، وأنا مدركة في داخلي أن الأب والأم لا يعوضان.
كنت أول ما تقدمت للتطوّع في دار الأيتام ممتلئة بالحماسة لهذا العمل. تخيلت كما كنت أشاهد في أفلام الكرتون، مربية وأطفال يعيشون مع بعضهم المغامرات الشيقة. ربما لا فرق، ولكن بدلاً من مغامرات شيقة نعيش مغامرات مأساوية.
(خديجة) كانت مراهقة، لم يحتمل أحد طيشها وعنادها وجراءتها. كانت قبل قدومها إلى الدار تعيش وترعى أخوتها من عمليات السرقة، وتعلم أخوها عمر الذي يصغرها سناً السرقة!
تتحدث ( خديجة) عن بطولاتها في السرقة، بكل حماسة، وتضحك، وتسرد كيف كانت تتسلق عبر شرفتهم إلى شرفة جيرانهم عندما سافروا، وقاموا بأخذ كل ما يملك جيرانهم من مؤنة: جبن وزيتون وحلاوة وزيت؛ وهم في غاية السرور على ما غنموه من سرقة لذيذة. وعند عودة جيرانهم من السفر اكتشف أمرهم مما دفعهم إلى طردهم من المنزل.
وبعد أن طردهم عمهم أيضاً، لأنه لم يعد يحتمل نفقاتهم، بدؤوا بالتجوّل في الشوارع ويقومون بالسرقة ليأكلوا، ويعيشوا في خرابات البيوت، الى أن أحضرهم مشرف الدار -أسمر الحلبي- برفقة أطفال آخرين كانوا يعيشون في دار العجزة وأمراض التخلف العقلي، بعد أن اعتقلت داعش أهلهم وأختفى أثرهم.
كانوا أربعة أطفال إخوة، من عائلة اللبابيدي؛” غنوة” أكبرهم وعمرها 13 سنة. كانت تهتم بإخوتها في دار العجزة. و”بتول” عمرها 6سنوات، و”عبد الله” 4 سنوات، و”إبراهيم” الطفل الجميل وهو أصغر أطفال الدار ،عمره عام ونصف، وكان يناديني بأمي بعد أن تعلّق بي، حيث جعلتني الكلمة أحمل مسؤوليته، وأهتم لشؤونه.
كانوا سعيدين بأجواء الرعاية والاهتمام المقدمة لهم، ولكن بعضهم لم يكن من السهل عليه التأقلم مع باقي الأطفال، والمشرفات عليهم، ومع النظام الموجود؛ فليس كل الأطفال سريعي الاندماج والسبب يعود إلى ما عانوه من أزمات نفسية نتيجة ما مر بهم من ظروف الحرب القاسية التي لم ترحم طفولتهم وجعلتهم يعانون مرارة أيامهم.
عندما جاءت (سعاد.ق) وأخوها (مصطفى) إلى الدار، لم يندمج معهم الأطفال المتواجدون، وبدأوا بمضايقتها، وخاصة من قبل فتيات الدار؛ فقمن بنزع غطاء رأسها الذي تضعه بسبب حلقها لشعرها لانتشار القمل، مما جعلها بعد هذه الحادثة تنزوي لوحدها. كانت في عمر 12 سنة، وأخوها يبلغ من العمر 13 سنة؛ توفي والداهما في حادث سير، ولها أختان تكبرانها، مشغولتان في العمل ويبقيانها في البيت بهذه الحجة، لذا، أحضراها إلى الدار، ولكن مع مرور الوقت لاحظنا أن لهذه الطفلة سلوك غريب، غير تصرفات الأطفال وبراءتهم. فكانت كثيراً ما تجلس مع الطفلة بتول، مما أثار استغراب بعض المشرفات، فتعقبنَ تصرفاتها؛ لتراها مشرفة ذات مرة تقبّل طفلة بطريقة غير سوية، فعرضناها على مرشدة نفسية للدار، فاعترفت بعد أن ضغطت عليها لإخبارها عن سبب قيامها بهذا التصرف. فبكت وقالت لا اعلم لما! فسألتها هل أحد قام بهذا الفعل معك حتى أصبحت هذه الطفلة تبكي بشدة وشرعت بالكلام وقالت” أختاي تذهبان إلى العمل وتتركاني في البيت لوحدي، وذات مرة دخل أخي علي الغرفة خلسةً وبدأ بضربي دون سبب، واعتدى عليّ جنسياً، فلم أستطع أن احكي لأختيَّ ما حل بي. وكان يفعل أخي معي هذا باستمرار، حتى أتت مرة أختي ورأتني وأخي بهذا المشهد، فاصطحبتني إلى الدار لحمايتي من أخي.
عندها، وعدتها المشرفة بأننا سنأخذ حقك ولن نخرجك من الدار؛ تشجعت لتروي قصة أخيها الذي يكبرها بعام، وكيف تعرض هو أيضاً لعنف جسدي وجنسي من قبل ابن عمه عندما نزحوا لبيت عمهم ليرعاهم، بعد وفاة والديهم، وكيف تلقوا ما تلقوه من عذاب.
كانت تحكي لنا وهي تبكي بحرقة، فمن يرى بكاءها البريء، يقول إن سببه لأنها لم تحصل على لعبة العيد، لكن دموعها كانت تحمل معاناة سنين مضت وسنين قادمة ومجهولة المصير. كان الكره الذي تحمله لأخيها وأقربائها شديداً، مما جعلها تقول إني أتمنى أن يُعاقب أخي، وكل من أوصلنا إلى هنا حتى يشعر بالندم.
قطعت سكوتها قائلة لو كان والداي موجودين معنا ما كنا الآن هنا نقاسي مرارة هذه الأيام!
- طفلة في عقدها الأول تتكلم عن المعاناة والألم ومرارة الحياة بأسلوب لا يختلف عن امرأة في عقدها الرابع!
ربما تكون هذه الطفولة الكهلة،حيث تريد بكل براءة أن يندم أخوها. و لا أظن أن أحداً سيشعر بالندم، فمن يفعل هذه الأفاعيل الشنيعة تحت سماء الموت لا يمكن أن يردعه رادع حتى تصيبه ذات الرزية.
لم تكن قصص هؤلاء الأطفال هي الوحيدة، فهنالك أطفال يعانون أكثر، من ظلم وعنف، لكن بعضهم لم يغيّر شيئاً من حياته، كونهم أطفال، يتناسون أو يعودون لسجاياهم البريئة، يفرحون ويضحكون وكأن بهم لم يمسسهم سوء.
كان مشرف الدار هدفه الوحيد هو الأطفال. يجلس ويسألهم عن رغباتهم، من نزهات وألعاب ومأكولات؛ وبعد شهور، أصبح جميع الأطفال ينادونه “بابا أسمر”، وينادون باقي المشرفات بأمي، حيث صار الجميع يتعاملون مع بعضهم البعض كما أجواء الأسرة بشكل واضح.
نتابع دروس الأطفال، ونستمع إلى مشاكلهم الصغيرة وخلافاتهم مع بعضهم؛ وفي كل يوم جمعة يتساعد الأطفال بالتجهيز للذهاب إلى الحديقة الوحيدة، وهي حديقة السكري. يلعب الأطفال بالمراجيح الحديدة التي تآكلت من الصدأ، لكنهم كانوا يزينون المكان بضحكاتهم وطيشهم؛ وللأسف، قلّما تكتمل النزهات، حيث يقطع فرحهم صوت الطيران الهمجي،فنحاول
جاهدين أن نزرع الفرحة في قلوبهم، متجاهلين كل الظروف والموت والدمار .
نعيش فرحة كل يوم بيومه، نتهيأ معهم لاستقبال فرحة العيد، و نصطحبهم مع بعض المشرفات إلى السوق الشعبية لنشتري لهم ملابس العيد التي يختارونها بأنفسهم، لترتسم الابتسامات على وجوههم؛ ونقوم بحفلات يأتي إليها الأطفال الأيتام المكفولين مادياً، ليشاركوا أطفال الدار أفراحهم.
اعتاد علي الأطفال، وأحببتهم كثيراً؛ حيث أغلب الأيام أبقى برفقتهم منذ الصباح إلى منتصف الليل، وكانوا أيضاً مُتْعِبين إلى حد كبير في طيشهم وعنادهم.
ولم تكن هذه المسؤولية بالأمر الهيّن، فهم بحاجة إلى مختصين ذوي خبرة، وأمهات قديرات للتعامل معهم، والأهم من ذلك أنهم بحاجة إلى الحب الكبير ولا يمكن الاستغناء عن أي من هذه الأشياء… فأنا كنت لا أملك سوى الحب لهم، فعمري كان لم يتجاوز 21 عاماً، لذلك قررت أن أغادرهم.
لم أتوقع من “عبد الله” الذي كان عمره خمس سنوات، وهو أكثر الأطفال عناداً، وأصعبهم تأقلماً مع كافة أفراد الدار أن يطلب مني احتضانه تلك الليلة، وأن لا أذهب إلى بيتي، وأحكي له حكايا كثيرة عن الخرفان والذئب، ويحكي لي عن أخيه “أسعد” الذي اعتقلته داعش، الذي كان ينوي السفر إلى تركيا، (لافظاً حرف الكاف بالتاء)، وعندما يعود يحضر له من تركيا الكثير من ألعاب السيارات والكرات.
لم يغادر الأطفال الدار، ولم يتركهم ” أبوهم أسمر”؛ بقي معهم إلى آخر المطاف، حيث تم تهجيرهم من حلب وهم 42 طفلاً، لم أتعرف عليهم، بسبب غيابي. غادروا إلى جرابلس يحملون الوجع ذاته أو لربما أكثر منه. وهناك، أسسوا داراً للأيتام، حاملين صور مدينتهم القتيلة، وذكريات من قتلوا ومن اعتقلوا ومن غابوا دون سبب، أو بعلّة هذه الحرب القذرة التي يقودها الشياطين.