ذاكرة مكان

تحقيق غير صحفي.. وشوشات الريح والحرائق

«أركضُ وأركض…

لهاثي المتواصل لا ينقطع، مثل صبيب عرقي الذي يُغرق ثيابي.

لقد علموا بأمري ورأوني، ولا شك أنهم يستخدمون الكلاب البوليسية لمطاردتي وتتبّع أثري، إنني أسمع نباحها ونباحهم من بعيد. بعض طلقات تعبر الهواء القريب. أركض بأقصى طاقتي. صور الدماء التي رأيتها تنزف هناك تطاردني، والحرائق التي اشتعلت بالبيوت والدخان الممتزج برائحة الأجساد المحترقة، جميعها تحضر أمامي لأعبرها باتجاه النهر، لا شيء يضيّع أثري عليهم وعلى كلابهم إلا الماء، وها أنا أصل إلى مجرى “بردى”، صحيح أنه أصبح ساقية صغيرة في مثل هذا الوقت من أواخر الخريف، لكنه يكفي لإخفاء أثري ورائحتي.

أحسست بالخدر الواخز يجتاح قدميّ وساقيّ رغم البلل والماء البارد. يبدو أنني نجحت في تضليلهم، غابت أصوات نباحهم وطلقاتهم عن مسمعي، ولم يبق سوى همهمات الريح في الشجر تصل أذنيّ، وبعض أصوات الضفادع والصراصير، وتحرُّك بعض الفئران والأرانب.

مع ابتلاع عتمة المساء ما تبقّى من شعاع النهار، كانت قدماي تخوّضان في المياه الضحلة ببرودة وإجهاد، متجهةً حسب تقديري جهة الشرق لعلي أصل بساتين “النشّابية”. ساعةً، أحسست بالخدر الواخز يجتاح قدميّ وساقيّ رغم البلل والماء البارد. يبدو أنني نجحت في تضليلهم، غابت أصوات نباحهم وطلقاتهم عن مسمعي، ولم يبق سوى همهمات الريح في الشجر تصل أذنيّ، وبعض أصوات الضفادع والصراصير، وتحرُّك بعض الفئران والأرانب.

من بعيد تلوح أضواء البيوت الخافتة، وأنا أجتاز ضفة النهر يميناً بين البساتين، وجسدي يرتجف من الإنهاك والبرد، وثيابي المبتلّة بالعرق والماء تلتصق بجسدي. أخطو متثاقلة باتجاه الضوء، فيأخذني الدوار وتلفّ بي الأرض.. وأسقط…».

كانت “هيفاء” ابنة العشرين عاماً تحدّثنا، والدموع التي تنساب من عينيها تصيبنا بعدوى البكاء. في “العتيبة” جمعتنا المصادفة في بيت صديقتي وزميلتي في الجامعة والسكن الجامعي “مها”، التي قررت زيارة أهلها في الضيعة والاطمئنان عليهم لأيام معدودة، لم أقبل حينها بتركها تذهب وحيدة، فرافقتها في مغامرةٍ أشبه بفيلم أكشن هوليودي، أو فيلم هنديّ عن العدالة المفقودة. خرجنا من المدينة الجامعية في تاسعة الصباح لنصل “العتيبة” بعد العصر، رغم قصر المسافة. كانت الحواجز العسكرية في “دمشق” حتى أطرافها الشرقية تجعل التحرك والتنقّل أشبه بمختبرٍ سرّيّ للتفتيش والتدقيق. ولم تخرج حافلتنا الصغيرة من بلدة “المليحة” حتى ما بعد الظهر، فانطلقنا باتجاه “البلالية” ومنها إلى “النشّابية” ثم “العبّادة” لتستقبلنا “العتيبة” بُعيد العصر استقبال الفاتحين، بعد عبور حواجز مختلف الفصائل واللجان المدافعة عن قرى الريف.

فرّت مجدداً والتجأت إلى صديقتها “فريال” في “العتيبة”، بعد أن تركت أختها الصغيرة “بدور” ذات الأعوام العشرة تحت ركام غرفتها في القصف على بلدتها، حيث تهدّم جزء كبير من المنزل بقذيفة دبابة، ولا تعرف مصير أمها وأخوها الصغير ذي الأعوام الثلاثة

“هيفاء”، ومُضيفتها “فريال” جارة “مها” وصديقتها، حضرتا سهرتنا للسلام علينا وتناول أطراف الكلام والدردشة، لكن الواقع المؤلم الذي تعيشه بلادنا عموماً منذ سنوات، وأخبار الغوطة الشرقية خصوصاً، كانت تفرض وجودها على جميع السوريين أينما حلّوا أو التقوا في داخل البلاد وخارجها…

خرجت “هيفاء” من “كفر بطنا” عصر اجتياحها، ومن ثم خرجت من “النشّابية” المهددة بالاجتياح حينها، ففرّت مجدداً والتجأت إلى صديقتها “فريال” في “العتيبة”، بعد أن تركت أختها الصغيرة “بدور” ذات الأعوام العشرة تحت ركام غرفتها في القصف على بلدتها، حيث تهدّم جزء كبير من المنزل بقذيفة دبابة، ولا تعرف مصير أمها وأخوها الصغير ذي الأعوام الثلاثة، أما أبوها الذي انسحب باتجاه “النشابية” مع من انسحبوا بعد دفاع مستميت عن البلدة، فلم تعد تعرف عنه شيئاً، وأما هي التي كانت توزع المناشير وتهتف بإسقاط النظام في المظاهرات، فقد عُمّمت صورتها على كل الحواجز وأضحت مطلوبة للأمن.

– وكيف هربتِ منهم بعد دخولهم البلدة، وتركتِ أختك تحت الركام؟

– كانت أمي تجمع بعض الحوائج لنهرب من البيت، كما كانت تفعل كل عائلات البلدة. حين ماجت الأرض بنا، كانت القذيفة قد ابتلعت أكثر من نصف البيت، وسقطنا على أرض الغرفة وسط متاع البيت الذي تحطم، ورغم إحساسي بألم شديد في خاصرتي وفخذي الأيمن هرعت باتجاه غرفتنا المشتركة التي كانت تقاسمني إياها أختي الصغيرة التي كانت تحضر ألعابها منها لحظة حوّلتها القذيفة إلى ركام، بحثت عنها وصراخي يصمّ الآذان، نبشتُ الركام بيديّ وقلبتُ الحجارة كالبلهاء ولم أعثر لها على أثر، استغثت بأعلى صوتي وما من مجيب.. ولم أشعر بحالي إلا على صوت الجنازير وهدير الدبابات. أمي وأخي اختفيا ولم أعرف أين اتجها وهل بقيا أحياء أم ماتا بالقذائف والرصاص. كانت أصوات الجنود تقترب، أحسست بأنني وقعت في قبضتهم، ودون أدنى تفكير قفزت من الجهة المحطمة من البيت، لم أستطع تحديد اتجاه ثابت أنطلق فيه وتركت لرجليّ مهمة الركض، سمعت خلفي نباح كلاب وأصوات مختلطة، ميّزتُ كلمات متفرقة منها: اقبضوا عليها.. طاردوها.. تلك القحبة المطلوبة..

– ولمَ لم يُغثكِ أحد عندما كنتِ تصرخين وتنبشين الركام؟

– كانت معظم بيوت البلدة قد سقطت تحت القذائف واشتعلت النيران في أكثرها، كنت أسمع الصراخ والأنين من البيوت القريبة، وأشتمّ رائحة الأجساد المحترقة مع رائحة الدخان المنبعث من كل مكان.. وكان الهجوم سريعاً جعل جميع من بقي حياً يهرب. تشتّتت العائلات وفُقد الكثير من أفرادها، وخرج الجميع في اتجاهات شتّى هائمين على وجوههم، ولا أحد يعرف كيف وأين يتّجه. كانت مجزرة بحق البشر والحجر والشجر.

– وماذا تنوين أن تفعلي الآن؟ هل ستبحثين عن أهلك؟

لكن الخبر الفاجع لـ”هيفاء” وعائلتها، كان اعتقال والدها بعد أحداث “كفر بطنا” بأيام قليلة، وبعد شهرين خرج من المعتقل جثّة هامدة، إذ كانت آثار التعذيب البادية على كل جسده توحي بأنه وقع بين جوقة من الضباع.

قالت من بين دموعها التي تساقطت مجدّداً: أهلي لهم الله، أين يمكنني أن أبحث عنهم وأنا مطلوبة للاعتقال؟ سألت عنهم بعض المعارف والجيران الذين التقيتهم في “النشّابية”، ولم يفدني أحد بخبر. وقد تواصلت مع بعض المعارف ليؤمّنوا لي طريق الخروج إلى تركيا، ولعلي من هناك أستطيع تسقّط أخبار أبي وأمي وأخي إن بقوا على قيد الحياة.. وإذا شاء الله وكان لنا قسمة أن نلتقي…

غصّت “هيفاء” بدموعها، وغصّتنا دموعُنا وآلامُنا على حالها، وعلى حالنا وحال بلدنا، الذي استباحه “حماة الديار” وجيوش الاحتلال الفارسي والروسي والتركي ومرتزقتهم، كما استباحته الفصائل التابعة لأجندات خارجية، لا تقل سوءاً عن الاحتلال… والشعب بكافة أطيافه يرزح تحت تنكيلهم وقتلهم وتهجيرهم.

بعد أشهر قليلة على لقائنا في “العتيبة”، علمتُ من “مها” أن “هيفاء” تنقّلت عبر “حمص” و”حماة” و”حلب”، ووصلت إلى “غازي عنتاب”، وهناك التقت بأمها وأخيها اللذين تيسر لهما رفقة بعض الجيران الذين نزحوا إلى “حمص”، ثم واصلوا طريقهم إلى تركيا.. وأنها تعمل مراسلة صحفية من “غازي عنتاب” لإحدى المحطات التلفزيونية المعارضة الموجودة في تركيا.

لكن الخبر الفاجع لـ”هيفاء” وعائلتها، كان اعتقال والدها بعد أحداث “كفر بطنا” بأيام قليلة، وبعد شهرين خرج من المعتقل جثّة هامدة، إذ كانت آثار التعذيب البادية على كل جسده توحي بأنه وقع بين جوقة من الضباع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة + 15 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى