رسائل البحار
استلم…
كلمة واحدة على الواتس أب، كانت فاتحة طوابير من الرسائل تتزاحم كل ساعة. حين قررت صديقتي “ميساء” أن تفشي لي بسرّها لم تكن تعلم أنني سأنشر رسائلها، لتصبح وثيقة حيّة على مأساتها التي عاشتها لعدّة أعوام مع “عمر”، وهي التي قررت الارتباط به رغم الرفض الطائفي الذي يقيّد كلاً منهما برباطه، بل يقيّد أسرتيهما الخائفتين من النبذ الاجتماعي في محيطهما.. لكنني عدتُ واستأذنتها في نشر هذه المغامرة كشاهد للتاريخ على مهزلته بحق شعب يحمل على منكبيه تسعة آلاف عام من الحضارة التي منحت البشرية أول أبجدية مكتوبة.
“ميساء” و”عمر”، جمعتهما المقاعد الدراسية في جامعة “البعث” في “حمص”، كانا يدرسان في قسم التجارة والاقتصاد، تحابّا وتعاهدا على الارتباط رغم كل العراقيل، وهما ينتميان لطائفتين مختلفتين. تخرّجت “ميساء” قبله بعام وهي تصغره بعامين، إذ كان عليه أن يعمل إلى جانب دراسته ليوفّر لأسرته متطلبات الحياة، وقد تركه والده معلم اللغة العربية الشاعر المعارض للنظام؛ في موقع المسؤولية عن الأسرة، بعد أن غيّبته المعتقلات منذ سنوات. كانت ترهقه متطلّبات المعيشة والدراسة والعلاج لأم مريضة وأخ وأخت طالبين في الإعدادية، وهذا جعله يتأخر في دراسته وفي تخرّجه.
«زرتُ “حمص” في اليوم الذي أعلنت فيه “بابا عمرو” ومعظم أحياء المدينة العصيان السلمي، لفك الحصار عن “تلبيسة” و”الرستن”. التقيتُ “عمر” الذي كان يحمل من الهمّ ما ينوء وجهه الهادئ الجميل بحمله، وأخبرني أنه أنهى امتحاناته النهائية منذ أسبوع ويأمل بالتخرج،
«ابتدأت مشكلتي لحظة تخرّجي في الجامعة بدايات العام 2011، رغم تأخّري المتعمّد عاماً كاملاً وإكمالي بآخر مادتين، حيث كان عليّ مواجهة سيلٍ من الخطّاب من الأقارب والأغراب عن قريتي الواقعة في الريف الشمالي لمحافظة “السويداء”. حيث كنت أقنع أهلي والآخرين أنني أرفض الارتباط قبل إنهاء دراستي الجامعية، وها أنا قد أنهيتها، فما الحجة المتبقية؟
قاومتُ بضعة أشهر بحجج وذرائع مختلفة، إذ انتفضت “درعا” بعد تخرجي بشهر تقريباً، تلتها “حمص” بعدها بعدّة أيام. كنتُ أتواصل مع “عمر” عبر الواتس أب، وكان يشرح لي قصة مدينته الثائرة “تلبيسة” التي أغلقها النظام من كافة نواحيها وحاصرها بالدبابات والآليات الثقيلة تمهيداً لاقتحامها، ونصب الحواجز التفتيشية على مداخلها… وقصة معاناته في هذه الظروف وهو في سنته الدراسية الأخيرة، ومعاناة أسرته التي كان عليه أن ينقلها إلى “حمص” لإخراجها من دائرة الخطر، رغم أن معظم أحياء “حمص” كانت ثائرة حينها: “باب السباع، بابا عمرو، جورة العرايس، الخالدية، البياضة، دير بعلبة….”.
كل هذه الأوضاع الصعبة كانت تضغط باتجاه عرقلة حلمنا في الزواج والاستقرار، إذ كنتُ قد قررتُ الهرب إلى “حمص” والزواج من “عمر” حين إنهائه لترتيبات السكن الذي كان يخطط له، ولا سيما أنني كنت قد عملت وأنا في سنتي الثالثة في قسم المحاسبة بشركة أدوية في “حمص”، وكنت جمعت رصيداً مادياً جيداً للتحرك، وامتلكتُ المبرر الكافي لزيارة الشركة بحجة متابعة العمل…».
تستمرّ رسائل “ميساء” التي تشرح فيها مفاجآت القدر السارّة والمحزنة، في بلاد دخلت المجهول من أوسع أبوابه، وأصبحت مرتعاً لجيوشٍ واستخباراتٍ من أربع جهات الأرض، تحرس وتحرّض على قتل الإخوة بيد الإخوة، لتقتسم الكعكة على البارد المستريح…
«زرتُ “حمص” في اليوم الذي أعلنت فيه “بابا عمرو” ومعظم أحياء المدينة العصيان السلمي، لفك الحصار عن “تلبيسة” و”الرستن”. التقيتُ “عمر” الذي كان يحمل من الهمّ ما ينوء وجهه الهادئ الجميل بحمله، وأخبرني أنه أنهى امتحاناته النهائية منذ أسبوع ويأمل بالتخرج، لكنه بالأمس لم يستطع دخول “تلبيسة” لإخراج أسرته بعد أن استأجر بيتاً متواضعاً في حي “القلعة” في “حمص” يكفي لإيوائهم، وأن جيش النظام المحاصر لـ”تلبيسة” و”الرستن” قرر اقتحام المدينتين وإخضاعهما بالقوة وإنهاء تظاهراتهما، وأن هذا سيوقع مجازر لا مثيل لها بحق المدنيين في البلدتين، بعد أن قدّمت كل منهما عشرات الشهداء الذين سقطوا برصاص الجيش على المظاهرات السلمية، وهو يخشى على أمّه وإخوته ولا يستطيع التواصل معهم، إذ انقطعت جميع وسائل التواصل والاتصال.
بتُّ تلك الليلة على الأريكة أغفو لحظات وأصحو مذعورة لأتلقّف الهاتف الذي لم يعد يجيب على نداءاتي… وبعد الظهيرة بساعتين ولم يكن “عمر” قد عاد أو اتصل، كان عليّ الذهاب كما وعدته، بل كما فكّرت طيلة ليلي ونهاري ولم أجد في بقائي أي فائدة تُذكر، بل على العكس أصبح وجودي وحيدة هنا خطراً ومعظم أحياء المدينة الثائرة تعمّها الفوضى والمظاهرات.
واسيته قليلاً، رغم القلق الذي اعتراني على مصير الأسرة الطيبة، ومئات الأسر التي لم يُسمح لها بمغادرة المدينتين. بتنا ليلتنا في البيت المستأجر ساهرين حتى الصباح، نتابع الأخبار وبعض الاتصالات التي يقوم بها في محاولة تسقّط معلومة عن الأوضاع، لكن الصباح لم يكن كأيّ صباح، وصل القليل الناجي من مذبحة ودمار “تلبيسة” و”الرستن” إلى “حمص”، لقد دخلت جحافل حماة الديار إلى الديار بعد أن مهّدت بقصفٍ ثقيل دكّ الكثير من البيوت على ساكنيها… كان عليّ الذهاب مع “عمر” غير أنه منعني من المغامرة بأي حال من الأحوال، ورجاني بل أخذ مني عهداً: انتظريني هنا في البيت إلى ظهيرة الغد، وإن لم أعد اركبي أول حافلة منطلقة إلى “دمشق” ومنها إلى “السويداء”.
بكيتُ، حاولتُ المجادلة وأن واجبي أن أقف إلى جانبه، لكنه أقنعني بأن وجودي معه سيعرقل سرعة تحرّكه ووصوله إلى بيتهم في “تلبيسة”… فانتظرت على جمر الصبر، جالسة على الأريكة.. أتّصل به وأطمئن عليه كل بضع ساعات.. في المرّة الثالثة وكانت بين الظهيرة والعصر لم يعد يجيب على الهاتف ما ضاعف من مخاوفي وحيرتي، وأنا مغلوب على أمري لا أعرف ما يجب فعله غير الانتظار… بتُّ تلك الليلة على الأريكة أغفو لحظات وأصحو مذعورة لأتلقّف الهاتف الذي لم يعد يجيب على نداءاتي… وبعد الظهيرة بساعتين ولم يكن “عمر” قد عاد أو اتصل، كان عليّ الذهاب كما وعدته، بل كما فكّرت طيلة ليلي ونهاري ولم أجد في بقائي أي فائدة تُذكر، بل على العكس أصبح وجودي وحيدة هنا خطراً ومعظم أحياء المدينة الثائرة تعمّها الفوضى والمظاهرات. حملتُ حقيبة يدي وانطلقت، ركبت أول حافلة إلى “دمشق”، ومنها إلى قريتي الواقعة بين “دمشق” و”السويداء”».
لا اتصال مع الحبيب، ولا أفق للعمل، تواجه “ميساء” الضغوط باكتئاب بدأ يتسلل إلى روحها المعذّبة، وهي تتعامل مع من يتقدّم لخطبتها بجلافة ونفور يبعده عن طريقها… وتمضي أشهر خمسة كقحط سنوات عجاف، قبل أن تتلقى رسالة على الواتس أب تورق لها أغصانها الذابلة…
«حين أُفرج عن “عمر” التحق من فوره بالجيش الحر مع مجموعة تقاتل في ريف “حماة” الشمالي، وبعد تواصله معي وعلم أنني وصلتُ إلى ألمانيا، قرر اللحاق بي عبر تركيا، وأنا وافقته وباركت له رحلته وأخبرته أنني أنتظر وصوله على أحرّ من الجمر..
«حبيبتي “ميساء” أنا “عمر”، إذا وصلتك رسالتي هذه فاعلمي أنني ما زلت أحبك ولم يبق لي من أحد في هذه الدنيا غيرك.. أسرتي كلها قضت تحت ركام بيتنا المدمّر في “تلبيسة”، وأنا اعتُقلت عند محاولتي الخروج منها بعد وصولي للبيت ورؤيته، كنت آمل الوصول إليك قبل مغادرتك “حمص” لكن مخالبهم طالتني قبل أن أحقق أمنيتي.. لم أكن قادراً على التواصل معك وأنا أعيش كل يومٍ تعذيباً يجعل الموت أمنيةً كل ساعة، لكن القدر الرحيم وضع في طريقي من رأف بحالي وحولني إلى سجن “حمص” المدني منذ أسبوع، وأُدرجت أوراقي بتحويلي إلى المحكمة المدنية، التي ستنظر بقضيتي الشهر القادم بعد رأس السنة مباشرة، وقد أصبح طليقاً حينها.. سأعاود الاتصال معك حين أستطيع… أحبك».
تركت “ميساء” رسالةً لأهلها تخبرهم أنها ستهاجر إلى أوروبا عن طريق لبنان، لأنها تطمح بمتابعة تحصيلها العلمي، وانطلقت فيما يشبه الفرار من وضعها القاتل.. وفعلاً استطاعت بمساعدة أحد الأصدقاء الوصول إلى تركيا ومنها إلى اليونان عبر البحر، ومن ثمّ في رحلة شتائية عبر البر إلى ألمانيا، مع مجموعة كبيرة حام فوقها حِمام الموت الذي رأته مرّات عدة- حسب زعمها- واختطف الكثير من أطفالها ونسائها بسبب الثلج والصقيع عبر البلاد الباردة…
في مخيّم اللجوء في “دورتموند”، بعد وصولها بأيام قليلة، وصلتها رسالة واتس أب جديدة: «حبيبتي “ميساء” أنا “عمر” وهذا رقمي، أجيبيني إذا وصلتك رسالتي…».
«حين أُفرج عن “عمر” التحق من فوره بالجيش الحر مع مجموعة تقاتل في ريف “حماة” الشمالي، وبعد تواصله معي وعلم أنني وصلتُ إلى ألمانيا، قرر اللحاق بي عبر تركيا، وأنا وافقته وباركت له رحلته وأخبرته أنني أنتظر وصوله على أحرّ من الجمر.. وصل إلى تركيا، وركب البحر إلى اليونان، لكنْ، يبدو أن مباركتي لم تكن مقبولة عند القدر الذي سبقني إلى رؤيته، وقضى مع أربعين شخصاً ابتلعهم البحر مع بَلَمهم». هل تكفي دموعنا يا صديقتي؟ لعلنا “محكومون بالأمل”، والأمل لا تنطفئ جذوته ما دامت العروق تنبض.