ذاكرة حصار

عن الحصار والحجر الصحي: مقاربات إغريقية

ألعوبة سقراط

يشبه الحصار كل شيء إلا أن يكون حَجْرا صحيا. يفترض أن يكون هدف الحَجْر الحفاظ على صحتك، أما الحصار فلا يرضى بغير رأسك مقدما في سطل زبالة، وبأشلائك مختلطة ببرازك. لكنك من ناحية ثانية، أنت كاتبَ هذه الكلمات أو قارئَها، لست مركز الكون. من ضحك عليك وأخبرك بأنه يأبه لأمرك؟ كان هدف الحصار حماية المجتمع الوادع الوديع منك: من إرهابك، من ثورتك، من مطالبتك بالكرامة والحرية، من حلمك بوطن جدير بهذا الاسم.

وصحيح أن العلم لم يثبت ــ إلى الآن ــ أن هذه الأفكار جراثيم أو فيروسات أو طفيليات أو سواها من عالم الأحياء الدقيقة، لكنها تظل مُعدية، بل ربما شديدة العدوى. وهي لا تحتاج للتواصل المباشر، يمكنها أن تنتقل عبر منشور على الفيسبوك مثلا، أو فيديو على اليوتيوب، أو إطلاق اسم خاص بكل يوم جمعة، فتندفع الجماهير إلى الشوارع وفيها تطالب بحقوقها. لذا فهي، من هذه الناحية على الأقل، وباء نموذجي. بل هو وباء أخطر من إنتان سخيف يمكن أن يقضي عليه مضاد جرثومي أو فيروسي أو جرعة فلاجيل. هذا الوباء الفكري يتطلب إنزال الجيش بكل جبروته وجهله وهمجيته، يتطلب إنشاء معتقلات جماعية تظهر أحط ما في النفس الإنسانية (هذا هو اسمها: النفس الإنسانية! ماذا أصنع؟)، يتطلب قتلا وتهجيرا وتدميرا عزّتْ نظائرها … لذا كان لا بد من الحصار.

إذن، فالحصار لا يشبه شيئا بمقدار ما يشبه الحَجْر الصحي.

الحصار عقوبة لك على جهلك فحسب. أيّ جهل تقصد؟ أقصد رهانك على الإنسانية. وهذا الرهان نتاج جهل مركب: فأنت تعتقد أولا أن الإنسانية موجودة، وثانيا أنها ستهرع لنجدتك بمجرد أن تراك تُصلب وفق أحدث تقنيات مابعد الحداثة.

وصفة أبقراط

ثم الحصار عقوبة لك. ليس عقوبة لك على ثورتك لا سمح الله! من قال ذلك؟ حزبنا من الأصل وفي الأساس حزب ثوري. ليس ذنبنا أنك لم تكن حزبيا. الحصار عقوبة لك على جهلك فحسب. أيّ جهل تقصد؟ أقصد رهانك على الإنسانية. وهذا الرهان نتاج جهل مركب: فأنت تعتقد أولا أن الإنسانية موجودة، وثانيا أنها ستهرع لنجدتك بمجرد أن تراك تُصلب وفق أحدث تقنيات مابعد الحداثة. لم تستفد أيها الغبي من كل ما علمناك إياه ــ ومجانا ــ في مدارسنا وثانوياتنا ومعاهدنا وجامعاتنا ورياض أطفالنا ومعسكرات طلائعنا وشبيبتنا. 

وإذ يئسنا منك، ولأنه من لم يداوه العلم لن يداويه شيء، كان لا بد من التخلص منك. حفاظا على الوعي الجمعي والعقل الكوني والاستقرار الدولي والتصحاح النفسي من أوهامك وخيالاتك المريضة. حتى في طبنا الحديث، لا يكف العلاج عن عادته القديمة في أن يكون أشد وطأة من المرض.

في المرة القادمة، حين تراهن، ارمِ نفسك وكلَّ ما تملكه في البحر، فهذه طريقة أسرع وأسهل للتخلص من أموالك وحياتك.

كهف أفلاطون

يطرح الحَجْر الصحي سؤالا جديا: كيف سأقضي الوقت؟

يطرح الحصار سؤالا جديا: كيف سيقضي علي الوقت؟

يجيب الحَجْر: في الجعبة كثير من الحكايات.

يجيب الحصار: سأصبح حكاية جديدة.

يقول الحَجْر: استعِدْ قليلا من دفء المنزل وحميمية العائلة.

يقول الحصار: استعدّ كثيرا لبرد الجوع والشتاء والحرمان.

يتأمل الحَجْر: المسألةُ نومٌ أطولُ بعضَ الشيء من المعتاد.

يتأمل الحصار: المسألة موت أقسى كلَ الشيء من المعتاد. 

يشكو الحَجْر: بدأت أشعر بالملل.

يشكو الحصار: بدأت أفقد الأمل.

يضيء الحَجْر: غدا أفيق!

يظلم الحصار: عيناي لا تريان أفقا.

يقترح الحَجْر فكرة: تعال نلعب الشطرنج!

يجترح الحصار إجابة: هي مجرد “كش مات!” وينتهي أمري.

يحاول الحَجْر محاولة أخيرة لإنهاء الإحباط: ما رأيك بممارسة الحب؟

يحاول الحصار محاولة أخيرة لإنهاء الحوار: ما عاد في قلبي متسع لغير الحقد.

الوباء ــ أيا ما كان اسمه العلمي أو التجاري ــ يتفشى في العالم كله، لا يتورع عن إصابة أرقى النخب في أكثر الدول تقدما. وأنت ترتع وترتعي وتلعب بين أشجار الزيتون وفي السوق: لا ترتدي كمامة، ولا تخشى مصافحة، ولا توفر عناقا أو تقبيلا، ولا يعتريك الرعب لسماع سعال جاف، ولا يأخذك الإفْكِل لافتقادك الهيدروكسي كلوروكين، وفوق ذلك تتابع أخبار العالم وأرقامه وأنت تمضغ تبغك ومرارتك، مثلما سبق له أن تابع أخبارك وأرقامك وهو يجتر فوشاره وإنسانيته.

ديالكتيك هرقليطس

الطريق الصاعدة هي الطريق النازلة نفسها. لا أحد ينكر ذلك. لكنك تحتاج براعة المخيلة: أن تتخيل نفسك مرة على القمة، ومرة في الهاوية. حينها، وحينها فقط، تستبين الحقيقة كاملة. الحرية هي الحصار نفسه لكن على الجانب الآخر من القضبان. هذا كل ما في الأمر. وهي ليست مماحكة فلسفية. أنت الآن في الشمال السوري، في إدلب، تدبرت منزلا ما أو تسكن خيمة لعينة، لا يهم. المكان الذي أنت فيه الآن هو ضمن الأراضي المحررة، وهو محاصر في الوقت ذاته. أرأيت؟  الحرية والحصار، هذه واحدة. هاك واحدة أخرى: الوباء ــ أيا ما كان اسمه العلمي أو التجاري ــ يتفشى في العالم كله، لا يتورع عن إصابة أرقى النخب في أكثر الدول تقدما. وأنت ترتع وترتعي وتلعب بين أشجار الزيتون وفي السوق: لا ترتدي كمامة، ولا تخشى مصافحة، ولا توفر عناقا أو تقبيلا، ولا يعتريك الرعب لسماع سعال جاف، ولا يأخذك الإفْكِل لافتقادك الهيدروكسي كلوروكين، وفوق ذلك تتابع أخبار العالم وأرقامه وأنت تمضغ تبغك ومرارتك، مثلما سبق له أن تابع أخبارك وأرقامك وهو يجتر فوشاره وإنسانيته. أنت حر وتظن نفسك محاصرا ، وتبخش شرج الكوكب بالحديث عن مأساتك كأنما لا أحد سواك يعاني. لا تقل لي: “كنتُ محاصرا في اليرموك وتفشت عندنا الحمى التيفية”. لا تصرع رأسي بحساباتك وعلم إحصائك الطبي لتثبت لي أنها بلغت مبلغ الوباء. لا تقنعني أن الحصار لم يكن حَجْرا صحيا. لا تستغلَ انعدام الأدوية عندكم حينها في الترويج لقضيتك من وراء قناع ظاهرة طبيعية، أصابت وتصيب وستصيب كل أحد وفي كل مكان.

ــ وماذا لو تسلل الفيروس إلى مخيمات الشمال، إلى المناطق الحرة/المحاصرة، عبر الحدود ممتطيا سلال الغذاء مثلا؟

ــ أرجوك! لا تسأل أسئلة افتراضية. حينها، وحينها فقط، لكل حادثة حديث.

مزّقْ تلك الأوراق السخيفة الهزيلة التي تسميها مالا. اخلع عنك ثيابك فهي لا تفعل غير أن تعيق حركتك وتُخفي رشاقتك. أتلف المسكنات ومضادات الاكتئاب التي أبهتت سوداويتك. أحرق دفاترك وأقلامك ومكتبتك الإلكترونية. اترك دماغك يتقيأ مصطلحات ــ من قبيل الأمل والطموح والراحة والاستقرار ونوعية الحياة ومعنى الوجود ــ إلى غير رجعة.

برميل ديوجين

هو لأول مرة، منذ سنين طوال حتى انقطاع النظر والرقبة، ليس محشوا بالمتفجرات. لا يهطل عليك من السماء بل تنبته لك الأرض. هو مكان تسكنه وتسكن فيه وتسكن إليه. هو وكرك وكِناسك وأصيصك وحوضك وعشّك. هو ليس خيمة ولا منزلا. ليس وطنا ولا منفى. ليس فندقا ولا خندقا. ليس أنت وليس سواك وليس “لاأنت ولاسواك”. ولتدخله، لا بد أولا من التخلص من بعض الكماليات التي تعكر صفاء ذهنك وتفسد عليك تركيزك. اقذف عائلتك بعيدا عن فكرك. بُلْ على طعامك أو تبرع به لأقرب جمعية شريرة. مزّقْ تلك الأوراق السخيفة الهزيلة التي تسميها مالا. اخلع عنك ثيابك فهي لا تفعل غير أن تعيق حركتك وتُخفي رشاقتك. أتلف المسكنات ومضادات الاكتئاب التي أبهتت سوداويتك. أحرق دفاترك وأقلامك ومكتبتك الإلكترونية. اترك دماغك يتقيأ مصطلحات ــ من قبيل الأمل والطموح والراحة والاستقرار ونوعية الحياة ومعنى الوجود ــ إلى غير رجعة. ثم ادهن جسدك ببعض المزلّقات لِتَلِجَ البرميل بكل سلاسة وعلمية.

وإذا ما مر بك قائد عظيم مثل الإسكندر المقدوني أو دونالد ترمب، لا تنس أن تقول له: “اذهب ولا تحجب الشمس عني”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر + 19 =

زر الذهاب إلى الأعلى