ذاكرة حصار

أسئلة الكورونا.. أجوبة الحصار

في البدء تعالوا لنتفق كسوريين أننا عدنا للوقوف على مسافة قريبة من الموت، ذاك الكائن الذي حسبنا أننا تركناه يعوي في بلادنا المعبّدة لمرور الجنائز فقط، يأتينا اليوم متسلّلاً بهيئة مخلوق مجهريّ لا نراه بالعين المجردة إلا أنّه يرانا، يعد أنفاسنا ويتلمّس خطواتنا ويقهقه على هلعنا المفرط في طوابير محلات البقالة .

 منذ الصباح ومكبّرات الصوت في هذه المدينة الصغيرة لا تهدأ فتعيد وتكرر بضرورة ملازمة المسنّين ومن يعانون من أمراض مزمنة منازلَهم. أسترق السمع وأفكّر بأنّ منازلنا التي تركناها خلفنا لم تكن سوى قبورٍ واسعة حين تهبط علينا قذيفة أو جسم متفجر من السماء أو عندما تباغتنا مفخخة من الأرض.

 اليوم منازلنا هي القوارب التي ستحملنا إلى ضفّة النجاة.. ياللمفارقة!! أعود لأتلصّص من نافذتي المطلة على الشارع فهي الآن صلتي الوحيدة مع هذا الكوكب الغارق بالقلق، فأرى مجاميع المارّة وهم ينقلون أكياس مؤوناتهم كأسراب نمل الصيف يتهيؤون للسبات، لكنّه ليس شتوياً هذه المرة. ألمح جارنا الخمسيني ( أبو علاء) يقف على زاوية بيته، يشعل سيجارة ويتنهد مطلقاً سحابة دخان تملأ السماء، ثم يتبعها بابتسامة ساخرة لعله الآن يستعيد مشاهد من كارثته كيف لم يستطع توفير دواء ( السكّري ) لزوجته حين كانا محاصرين في “غوطة دمشق”، وكيف فارقت الحياة أمام ناظريه! حتى أنّه لم يكن قادراً على توفير أدنى مستلزمات الحياة على عكس هؤلاء المارة؛ لعلّه يقارن بين هلعهم وكارثته، غالباً سيستخلص بأنّه لن يأخذ الحياة على محمل الجدّ مثلهم.

 أحاول درء الضجر باصطياد فيلم جديد فيأخذني محرّك البحث على الفور نحو أفلام كنت قد شاهدتها من قبل، أو أفلام تتحدث عن الكارثة حتى هنا يركلني التكرار… ما هذه الدوامة التي علقنا فيها ؟ ومتى سنرجع مجدداً إلى الحياة ؟ أسئلة تنتابني لكنني لم أدخلها في محرك البحث فمن المؤكد أنه عاجز مثلنا تماماً، فهذا الوباء يسيطر على خريطة العالم يكسر الحدود ويهدم صروح العولمة بصمت قاتل. 

في حالات الحصار التي عايشها السوريون ومن خلال الحكايات التي وصلتنا لم يكن هنالك مكان للضجر في صدورهم (وهنا يكمن وجه آخر من أوجه الاختلاف بين الحصار والحجر) بالرغم من عدم امتلاكهم حينذاك أيّاً من وسائل الترفيه المتوفّرة بين أيدينا الآن . وقد يرجع ذلك لسيطرة الخوف والحزن على النفوس وحلوله محل باقي المشاعر.

 تقول “عائشة المعتز”  في سرديتها (يوميات الحصار في حلب) المنشورة في موقع ( حكايات سوريا ): ” لم تكن ليالي حلب كليالي المدن الأخرى. كانت أشد… فالقذائف بكل أشكالها تتساقط كالمطر على مَن بقي صامداً في المناطق المحاصرة. الخوف والتوتر سيّدا الموقف. لا أحد يعلم متى يتحوَّل من شخص على قيد الحياة إلى ميِّت..” 

 وتكمل ” أُمسكُ بهاتفي علّني أحصل على أي خبر جديد أستطيع عبره أن أُخفِّف من توتري… لكن عبثاً أحاول؛ الأخبار تزيد التوتّر! ظلَّ الوضع على ما هو عليه حتّى الفجر .. تفكّر بذلك وأنتَ تتنقّل بين غرفة الجلوس والحمام… خائفاً. لا تنام، إلاّ أنَّ النوم يغلبك وتستيقظ صباحاً لتؤمِّن لأولادك لقمة طعام كي يسدوا رمقهم طيلة النهار، لأنه لا يوجد في البيت ما يغنيهم عن جوع… تمشي في الطريق باحثاً عن رغيف خبز وأنتَ تفكّر بألف شيء: الموت وأولادك والخوف… وأنتَ متأكِّد أنَّ الكثيرين مثلك يفكّرون مثلما تفكّر “.. انتهى الاقتباس.

 تعلو ابتهالات وأدعية من مكبرات المسجد القريب من بيتي فتكسر برهبتها تأمّلي . أغادر الغرفة متجولاً في أنحاء المنزل وأتعثر كطفل يتعلم المشي حديثاً، أدخل المطبخ، أفتح الثلاجة وأسحب منها طبق “الرز بلحم” الذي أعددناه البارحة، “لو أنّ هذه الأطعمة تواجدت في ثلاجة بيت محاصر لأنقذت حياة طفل أو رجل مسن!” 

تدخل هذه الفكرة إلى جوفي مع أول ملعقة أتناولها. أكمل تناول الطبق وأرجع بنفس مشيتي المختلّة إلى الغرفة إذا ما عدنا إلى حالات الحصار السوري فسنجد بأن معظمها انتهى بالتهجير أو المصالحة .. إلا أننا الآن سنصالح من ؟ أو إلى أين سنتهجّر ؟ وهل من مساحة آمنة على هذا الكوكب تستوعبنا ؟ وكيف ستتوفّر (باصات خضر) لكل البشر ؟ 

محمّلاً بكل هذه الأسئلة أدخل ( التويتر ) تكاد أخبار الوباء تسيطر على جدار حسابي.. رائحة الموت تزكم أنوف قارّات العالم أجمع ( ثلاثون إصابة جديدة هنا، خمس وفيات هناك، تدابير احترازية تتخذها الدولة الفلانية، حظر تجوال في الدولة الآخرى، لقاح جديد يدخل حيز الاختبار، احتمالات يلقيها مركز دراسات ) أغلق حسابي وأعود إلى التساؤل هل ستنتصر الحياة ؟ أم سنفنى ونترك الكوكب ( ليحك جلده بظفره ) ؟ 

  • على الأقل إن متنا سنموت بأجساد كاملة فلا أطراف مبتورة ولا بطون مفتوحة ولا أعين مفقوءة . 

أمرر يدي إلى علبة السجائر فأجدها فارغة تماماً الآن سأضطر لكسر الحجر وكأنّه مجرد لعبة طفولية، أفتح باب المنزل وبلا تدابير وقائية أخرج يتلقفني البائع بالسلام فأنحسر عنه مبرراً ذلك بأنني أعاني من نزلة برد، حينها يرمقني بنظرة الشك ويناولني طلبي بطرف أصابعه تاركاً مسافة أمان بيننا .. أبتسم في وجهه وأعود. إن نجونا هل ستترك هذه المرحلة أثرها على حياتنا الاجتماعية ؟ هل سنعود نصافح بعضنا البعض ونأخذ أحبّتنا في أحضاننا ؟ أسئلة تطرق بوّابة رأسي في طريق العودة… أصادف ( أبا علاء ) في موقعه المعتاد فألقي عليه التحية من بعيد، فيرد ويسألني ( وينك يا زلمة ما عم نشوفك ؟ ) _ ( والله ياعمي بهالبيت ما عم نسترجي نطلع ) . ترن ضحكته لتعانق مسامع كل من في الشارع .. ويقول : ( لك نحن السوريين من شو بدنا نخاف إذا جربنا كل أنواع الموت ما عادت تفرق، طلاع وتمشى ولا عبالك، ما عنا شي نخسروا ) . أخذت أتأمّل حديثه، نعم السوري الذي جُرِّبت عليه أسواق سلاح العالم، من صواريخ وطائرات وغازات.. لن يأخذ بهذه المزحة إطلاقاً . أحييه مجدداً وأدخل البيت .

 في البيت أتعرّف على عائلتي من جديد أكتشفهم ..وجدت اليوم أن لي ثلاثة أطفال، أكبرهم تسألني متى سنعود إلى المدرسة ؟ هي التي كانت تعاني من الاستيقاظ مبكّراً صار حلمها الآن أن تفتح هذا الباب وتنطلق إلى حياتها مجدداً!

 الأوسط يبتكر ألعاباً تتناسب مع المساحة الضيقة فيجمع الوسائد، يرتبها فوق بعضها على شكل حصان وينطلق بخياله في سهول الغرفة.. أمّا أصغرهم فيكتفي بالرسم. 

في سنين الحرب كنا نعرف بعضنا جيّداً .. نعيش نفس الهاجس والأحلام، حتى خوفنا كان واحداً تقرّبنا الملاجئ و الأقبية وتعجن لحمنا ذات القذيفة.

 اليوم هناك جيش لا مرئي يحاصرنا من ست جهات، فنرتبك وننحسر كلٌّ إلى داخله. أتسلّل إلى غرفتي تاركاً أبنائي يعاركون الأسئلة، فأقوم بمراجعة سريعة لكتاب (الحب في زمن الكوليرا )لـ غابرييل غارسيا ماركيز، علّي أجد مقاربة فيه توصلني لأجوبة عن الأسئلة التي تنخر دماغي لا أجد ضالتي عنده .. إلا أنّ الكاتب بعد جولات ومدة زمنية شاسعة ينتصر للحياة . فهل سننتصر لها أيضاً ؟ سؤال آخر يقف في الطابور يغلبني النوم أنا وأسئلتي العقيمة بعد يومٍ حافلٍ بالتكرار ومن المؤكد أنّي سأكتسب في الغد حمل أسئلة آخر إلى أن يخنقني الهذيان .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 + 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى