شمسٌ حارقة – رسائل البحار
الشمس تجنح للمغيب، وشعاعها الأخير يحيل الأفق الغربيّ للحجارة والأشجار لأصفرٍ عصفريٍّ، والدروب الضيقة المتعرجة من الجبل أفعى تتلوى بين الصخور الناتئة، نازلةً باتجاه الرمل القليل الذي يفترشونه، والأمواج الخفيفة ترنّم موسيقى جنائزية بهسيسها فوق الرمال.. «يبدو أننا سنبيت ليلتنا هنا»، قالها نجيب لرفيقه “حسّان” المتكئ على حقيبة الظهر الملأى بالاحتياجات الشخصية والأغذية وأدوات السباحة والطوف.
– موعد وصولها الرابعة فجراً كما أخبرنا المهرب “أبو النجم”، وأمامنا نحو ثماني ساعاتٍ لننام ونرتاح قليلاً من مشقّة الطريق.
يجيبه “حسّان” مادّاً رجليه، متوسّداً حقيبة الظهر.
– هل تريد أن نأكل شيئاً قبل أن ننام؟
– التعب غلب على جوعي، كُل أنت، وأنا سآكل على ظهر السفينة.
غطّ “حسّان” بالنوم، غير عابئ بالمئات الذين كانوا يفترشون الرمال، مهجّرين من بلادهم التي لم تعد تحميهم، قاصدين أوروبا الآمنة، ليس لأجل أنفسهم فقط، وإنّما لأجل أولادهم وأسرهم الذين ينتظرون اللحاق بهم، علّهم يحظون بفرصة عيش كريم وتعليم جيد. أكثرهم من السوريين الفارين من بطش النظام وشبيحته، ومن جور عصابات القتل والخطف والابتزاز… إلى تركيا. كل واحد يتوسّد حقيبته، والتعب البادي على الوجوه النائمة فرشَ ظلاله خيمةً لا تقي لذعة برد نسيم البحر، في أواخر الربيع على الخليج التركي قرب مرسين.
الباخرة في عرض البحر ترسي مراسيها، والزوارق المطاطية التي وصلت مع الفجر، أخذت تُقلّ فوق طاقتها. ثلاثمئة وأربعون صعدوا ظهر سفينة البضائع، والجميع يتهامسون حزانى على المركب المطاطي الذي غرق قبل وصوله إلى السفينة، وذهب معظم من فيه طعاماً لأسماك البحر. أحد الناجين، الذي انتشله زورق آخر، يبكي بحرقة ويحاول رمي نفسه إلى الماء، ثلّة من معارفه تمنعه ويواسونه: «له الله.. ليس ابنك الوحيد الذي غرق في البلم، أكثر من أربعين شخصاً بينهم أسرة من خمسة أفراد.. عليهم رحمة الله جميعاً..».
“حسان” المصاب بدوار البحر في اليوم الثاني للرحلة، تقيّأ حتى أمعاءه، كان شحوب الموت بادياً على وجهه، و”نجيب” يشجعه ويحاول إطعامه وسقايته؛ «كلها ثلاثة أيام ونصل السواحل الإيطالية.. تصبّر قليلاً يا صديقي، يجب أن تتغذّى قليلاً لتقاوم.. إن لم يكن من أجلنا فمن أجل أبنائنا الذين ينتظرون اللحاق بنا». تحسّنت حالة “حسّان” في اليوم الرابع وتناول بعض الطعام والماء. لكنّ الليل البهيم التالي أثقل على الصدور، حين تآمر مع عاصفة مفاجئة في عرض البحر، فرضت على من مأواهم سطح السفينة حمّاماً قسرياً وهم بثيابهم، وجعلت السفينة ريشةً في مهب الرياح، يتلاعب بها الموج، وتتلاطم فوقها الأجساد، وتتطاير الحقائب تسبح في اللجّ العنيف.
نداءات الاستغاثة التي وصلت الصليب الأحمر، في جزيرة “صقلية”، وصلت متأخرة بعض الشيء، وصلت بعد أن أحنت السفينة عنانها للموج، وسلّمت رأسها للبحر. وصلت طرّادات الصليب الأحمر، التي راحت تجمع الطافين بين العباب، ومن بقي متمسّكاً على ظهر السفينة التي تغوص ببطء إلى الأعماق.
الموت حام جانحاه فوق الجميع، وغلّة “عزرائيل” لم تكن قليلة، سبعون مفقوداً، قُطعَ الأمل في العثور عليهم حتى ظهيرة اليوم التالي، ناهيك عن ثماني عشرة جثّةً انتُشلت من بين الأمواج.
كان الاتصال الأخير بيني وبين “نجيب” قبيل يوم الرحلة بساعات، وانقطع بعدها الاتصال. وصلني خبر غرق السفينة قبالة شواطئ صقلية. “نجيب” خارج التغطية منذ غادر الأراضي التركية. لابتْ نفسي، ولم أجرؤ على سؤال عائلته في سورية، خشية أن تكون أخبار السفينة لم تصلهم، فأسبّب لهم انشغالاً فوق انشغال. تمرّ الساعات بطيئةً، ولم تنقطع محاولات الاتصال.
في اليوم السابع لرحلة “نجيب”، جاءني صوته عبر “الواتس أب”، «سلامات يا صديقي، أنا في إيطاليا، اتصلت بزوجتي وطمأنتها واطمأنيت عليها وعلى الأولاد.. كانت الرحلة قاسية ومفجعة، رأيتُ الموت بعيني مرات في هذه الرحلة، لكن القدر كتب لي عمراً جديداً.. في “البلم” أكثر من نصف ساعة حتى وصلنا إلى السفينة، في غسق الفجر لم نكن نرى حولنا إلا الماء، كدنا نغرق مرّاتٍ عدّة، لكن وصلنا أخيراً إلى السفينة العملاقة، من يراها لا يتخيّل أبداً أنها يمكن أن تغرق مهما عتتْ العواصف. على ظهر السفينة، التي لم تبحر بنا حتى الظهيرة، كانت الشمس لا تكتفي بإرسال ألسنة اللهب، بل ترى جدائلها وشعرها المنفوش فوق صفحة الماء، كانت تشوي وجوهنا وأجسادنا، لم يكن في السفينة مكان نلتجئ إليه، مئات الأجساد تتزاحم فوق السطح، تحت صبيب شمس أواخر أيار، حتى داخل نفوسنا الشك بأننا سنصل إيطاليا خرفاناً مشويّةً على الفحم.
لم نكن نتخيل مع كل هذا الصبيب، أن ينقلب مطلع الصيف الحارق هذا عاصفةً تغرقنا بأمطارها الهائمة وسط البحر، بعد أن اسودّت أجسامنا ووجوهنا، حين لعب القدر لعبته قبيل وصولنا الشواطئ الإيطالية بيوم واحد، وهبّت العاصفة. لن أطيل الشرح حول العاصفة وغرق السفينة، التي تلاشى جبروتها أمام عاصفة بسيطة، إذا ما قورنت بعواصف الشتاء في البحار.. فلا بد أنكم تابعتم أخبار غرقها التي ملأت صفحات الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي.. كأنّ قدر السوريين الموت: في بلادهم بالبراميل المتفجّرة والرصاص الهائم في كل اتجاه والذبح والتعذيب في المعتقلات… وخارجها بالغرق وحوادث الطرق أو وسط الغابات والبرد الزمهرير على دروب أوروبا الشرقية.. الموت يلاحقهم في كل مكان، وكأنّهم كانوا سبب خطايا الكون أجمع».
– الحمد لله على السلامة يا صيقي.. كنت بلهفة جارفة لسماع خبر نجاتك، وقد بدأت خيوط الأمل تنسرب من بين أصابعي. لكن لم أفهم بعد كيف تغرق سفينة بهذا الحجم وسط عاصفة صيفية صغيرة؟ كل التحليلات والتخمينات التي سمعتها في الأخبار لم تكن مقنعة، ولم تُظهر الحقيقة.
– الجشع والطمع يا صديقي يعمي الأبصار.. سفينة شحنٍ محمّلة بالبضائع قدر طاقتها، وأضفتَ إليها أربعة أو خمسة أطنانٍ من الأجساد البشرية وأمتعتهم.. لقد قبض القبطان من المهرّب ألف دولارٍ عن كلّ رأسٍ بشريّ صعد إلى سفينته.. أمّا وقد أحسّ بالخطر المحدق به وبالخطأ الذي ارتكبه بهذا الحمل الزائد، لحظة اشتداد العاصفة وعدم قدرته على التحكّم بتوجيه السفينة، فقد أخذ يصرخ باللاجئين بمكبّرات الصوت: “ارموا أمتعتكم جميعاً.. من يعرف السباحة والعوم ليقفز إلى الماء ريثما تصل مراكب النجدة.. السفينة تكاد تغرق.. انجوا بأنفسكم”.. لكن هيهاتَ، من يتجرّأ على رمي نفسه في لجّة الموج الغاضب والمطر الغزير؟ أما حقائب اللاجئين وأمتعتهم فقد تطايرت من ذاتها في الرياح العاصفة، أو رمتها أيدي أصحابها الذين رأوا الموت يحوم فوقهم.
جميعنا أيقنّا بالهلاك لحظة مالت السفينة إلى الأمام، وأسلمت مؤخّرتها للريح تتلاعب بها. ولولا وصول مراكب الصليب الأحمر والأمم المتحدة لما نجا فرد واحد من الموت غرقاً..
– ماذا أقول لك يا صاحبي؟ أحمد الله على سلامتك أولاً.. أما قدرنا الذي قادنا إلى هذه التجربة، فإنه يرسم لنا أخطاء الماضي الذي لم نتعلّم فيه وضع النقاط على الحروف، كما يرسم لنا أفق المستقبل الذي يجب ألا نتركه للمصادفات والمهاترات.
كثيرون من وصلوا إلى برّ أمانٍ مؤقّتٍ، وكثيرون من خطفهم الموت الأسود في غفلة من الملائكة والإله، ليصبحوا طعاماً لأسماك البحر وحيتانه. ومن نافل القول أن علينا أن نعي ما نحن فيه، ونوثّق ما حصل، لنفهم أين نقف وأين موطئ قدمنا الآتي على أرضٍ صلبةٍ، ونبقى محكومون بالأمل، فالأمل لا تنطفئ جذوته ما دامت العروق تنبض.
آه كم تألمنا ونتألم نحن السوريين…
لنا الله…