ثياب لمناخ معتدلذاكرة حصار

أعشاب اليرموك الضارة

غفوتُ قليلا، فاستيقظت أحلامي، وهي عادة ما تفعل ذلك. في الوقت ذاته، استيقظياماموتو إيزوفجأة من منتصف نومه ليجد بيته خاويا من أثاثه، فكتب:

اللص أخذ كل شيء
عدا القمر
على النافذة

كان ياماموتو إذن، أوريوكانكما اشتهر هذا الراهب الياباني البوذي من القرن السابع عشر، أكثر حظا مني. فجنود الأسد لم يتركوا لي حتى ذلك القرص الأبيض الذي يخفف قليلا من عتمة ليلي: سين، ود، المقه، نانار، يريحو، الغاسق. وهو، أي ريوكان، تكفيه ومضة تسمى قصيدة هايكو ليسرد فيها ذكرياته وآلامه وانطباعاته. أما أنا فعليَّ أن أكتب وأكتب ثم أكتب لأدرك في كل مرة أني لم أقل شيئا بعد، وهذا من أعظم العبر، ودليل استيلاء الثرثرة على عصر التيك توك. وإذ أستخدم ضمير المتكلم، فلست أعني بها أنا بصفتي ذاتا مستقلة، بل بصفتي مواطنا سوريّاً أو فلسطينياً سورياً نكبَتْه رياح التعفيش. وإني وإن كنت لا أستطيع الجزم بتاريخ هبوبها لأول مرة، لكني أذكر تماما أنا كنا في مستهل عام 2012 حين سمعت بشيء يسمىأسواق السُنّة، وهيكما يشي اسمهاأسواق تباع فيها غسالات وبرادات وسخانات تنتمي إلى الطائفة السنية الكريمة، لكنها آثرت لأسباب عسكرية تبديل مذهبها. أما بخصوص اللفظ، فلن يسعفك شيء أقدم منمعجم اللغة العربية المعاصر، ففيه تكتشف أن العفْش هو أثاث البيت. أما قبله، فستجد الفعل عَفَش بمعنى جَمَع، وستجد العُفاشة من الناس، أي من لا خير فيهم. من قال إن لغتنا جامدة لا تتطور؟ والتعفيش هو تجريد البيوت من أثاثها، لا كسوتها كما قد توحي بداهةُ اللغة ورفعةُ الأخلاق. وهو تطوير للغنيمة، التي هي تقنيع للسرقة، والتي لسبب ما تعدها شرعة الأمم المتحدة جريمة ضد الإنسانية.

وقد يحاجج بعضُهم بأن ما حدث في سوريا لا يمكن حتى أن يندرج في بند غنائم الحروب، إذ الذين يتم تعفيش منازلهم هم السوريون، ومن يمارس فعل التعفيش هو الجيش السوري، الذي يفترض به حماية الوطن ومستوطنيه. ووفق هذه الحجة، يكون هذا الفعل نهبا ممنهجا يحقق لممارسيه مصدراً آخر للدخل، وحافزا للقتال. كما يَكون استراتيجيةً بعيدة المدى تحول دون عودة النازحين إلى بيوتهم لا سمح الله، وتزرع فتنة في لُحمة نسيجنا الوطني مذهل المتانة والتنوع والتجانس.

أيّاً ما كان الأمر، فلا أظن أن رغبة جندي عاشق في إسعاد خطيبته بخلاط مولينكس أو فرن ميكروويف تحتاج إلى تلك المبررات أو الذرائع. ووفق ذاكرتي إذن، يكون التعفيش قديما قدم الثورة، على أقل تقدير.

في مخيم اليرموك، تداول السكان الأصليون لغة مختلفة بعض الشيء. كنا نتحدث عن التعشيب، مصدر الفعل عشّب. ولي أن أتخيل اللغويين والمعجميين بعد قرون يعثرون على مفردتَي التعفيش والتعشيب فيحارون فيهما: أتعنيان الشيء ذاته أم بينهما فرق لطيف يدركه الراسخون في العلم؟ الخلاف إياه بين من ينكر وقوع الترادف في اللغة ومن يقر بوقوعه. وكان هذا الفعل في الأصل يأتي لازما كما في قولك: عشَّبَ الحقلُ أي نبت العشب فيه، أو متعديا كما في قولك: عشّب فلان الزرعَ أي أزال ما فيه من أعشاب غريبة. لكننا اقتصرنا علىالتعدي، إزالة ما في البيوت من أثاث فائض عن الحاجة، كما في شهادة الشاهد: عشّب أبو هارون شارع الـ 15، أي نهب محتويات جميع شققه.

ولهواة الفيلولوجيا، وفي تصريح لصحيفة الوطن يعود لعام 2013 قال أنور رجا، مسؤول الإعلام في الجبهة الشعبيةالقيادة العامة، أيجماعة جبريل“: “المخيم [ما] يزال يعاني من احتلال العصابات، واستباحتها لأمن الناس، والتعدي على أملاكهم وحرمتهم“. وعلى غير عادته، كان رجا محقاً في هذا التصريح وحريصا على حرمة أهله. ولكنه، على عادته هذه المرة، لم يحطنا علما بهوية تلك العصابات وتفصيلات عملها. كان هناك أبو عمر الجولاني أو بيان مزعل، وهو من سكان الحجر الأسود النازحين من الجولان. بدأ حياته الثورية إعلاميا في كتيبة جند الله، ثم أصبح قائداً لها بعد مقتل قائدها السابق، ثم قائدا للواء الحجر الأسود (بعد اتحاد عدة كتائب قادتها هم أمثال أبو هارون وأبو فهد ميازة ) ثم شكل الفرقة الرابعة في الجيش الحر بالاتحاد معأبو النور دريد”  قائدأسود التوحيد” (التي كان يدعوها سكان المخيم والحجر: أسود التحميل، فقد كانت في واقع الأمر شركة متخصصة بنقل أثاث المنازل وإفراغ المستودعات وسرقة المعامل). شمل طيف أفعال بيان مزعل هذا بعد دخوله المخيم مخالفاً خطة الجيش الحر: السرقة، والخيانة، وإثارة الفتن، والتعامل مع النظام وتزويده بالمعلومات.. فقد نهب مثلاً محتويات  الشقق التي طالتها أيديه، وكان يخزنها في مستودعاته في الحجر الأسود تمهيدا لبيعهاكما زعم حاقدونفي دمشق عبر حاجز السبينة بالتنسيق مع ضباط النظام. ليس الأثاث فحسب، بل لم تسلم منه الكبلات الكهربائية، هي والبطاريات وكل ما يحتوي النحاس. وكنتُ قد زعمت مرة أن هذه كانت الجذور التطورية لفيزيولوجيا التعفيش في الجيش الأسدي، لكن من ذا الذي يفصل بين الورقة الخضراء وتركيبها الضوئي؟ كانت أفعاله تتموالحق يقالجهاراً، وفي نور الشمس البديع. في تلك الفترة تشكلتالرابطة الإسلاميةمن الفصائل الإسلامية الموجودة في المنطقة، وبدأت حملة تطهير من الفاسدين فاعتقلت عدداً من عناصر الفرقة الرابعة إياها، ووقعت عدة اشتباكات معها، إلى أن حاصرتها في الحجر الأسود طالبة تسليم بيان مزعل شخصياً. يختفي الأخير لفترة من الزمن، ثم تشيع أنباء عن ظهوره في حملة جيش النظام على السبينةعلى أي حال، صرنا نعرف الآن نبذة عن العصاباتالتي احتلت المخيم واستباحت أمن الناس وتعدت على أملاكهمومن كان يوجهها، ويتعاون معها.

فصل:

أبو فهد ميازة: قائد كتيبة صقور الجولان، مشهور بممارسته رياضة التعذيب.

أبو هارون: عميل متطوع في أمن الدولة، وقائد كتيبة سيوف الجولان المتخصصة بسرقة الممتلكات عامّها وخاصّها.

أبو النور دريد: المعروف أيضا بكنيته أبو النور كابتيكول، والكابتيكول هو اللفظ اليرموكي للأمفيتامين ذائع الصيت الكابتاجون. ويبدو أن دريداً هذا كان ينير دروب الشباب بأرخص الوسائل وأكثرها كلفة.

وصل:

ولا ألوم أحدا أصابه الغثيان من ذكر هذه الأسماء، لكن لا بد مما ليس منه بد. وله أن يتخيل القرف حتى الموت الذي أصاب من أسعفه الحظ بمعاصرة هؤلاء الأعلام ومعايشتهم. ومنذ الأيام الأولى لتحرير مخيم اليرموك من الإرهابيين وممن تبقى من أهله، أي منذ العَشر الأخير من شهر أيار المبارك لعام 2018 بدأت قوافل الشاحنات تدخل يوميا خرائب اليرموك لتخرج محملة بالأثاث والتمديدات الصحية والكهربائية والأخشاب والحديد والنحاس والألمنيوم وغيرها من المعادن الخسيسة التي ستستحيل بقدرة تاجرٍ ذهباً وفضة. وزعموا أن من يقوم بهذا التعفيش هم مجموعات تابعة للفرقة الرابعة من جيش الأسد وعناصر من أمنه وعدد من الفصائل الفلسطينية (أي المرتزقة الفلسطينيين ذوي المؤخرة النضالية والكروش المتدلية والأصوات الجعجاعة المنكرة) وبعض المدنيين من البلدات المتاخمة للمخيم. لكن ما سبق مجرد زعم وإن أكدتْه عشرات مقاطع الفيديو ومئات الشهادات وعراقة التاريخ التي أكسبت جيش الأسد كثيرا من الأسماء السوأى. إذ واضح لكل ذي لب أنها مجرد عملية رفع أنقاض مزمنة وترحيلها تمهيدا لإعادة الإعمار وعودة السكان.

وإذ أعود الآن إليّ بصفتي ذاتا مستقلة لا مواطنا يرموكيا، أغبطني لكون الصواريخ أحالت مبنانا ركاما. فلأسباب اقتصادية، أذكر كيف اكتست عظام منزلنا لحماً ودماً بالتقسيط المريح. أذكر ممن استدان والداي وكيف أوفيا الدَين. أذكر كل غرفة متى دهنّاها. أذكر كل قطعة أثاث متى اشتريناها. أذكر كل جهاز كهربائي متى شرّف منزلنا وأحاله عيدا. ولأسباب نفسية، ما كنت لأطيق تخيل كتبي وكتب أبي تباع تحت جسر السيد الرئيس، ولا ثلاجتنا تصنع مكعبات الجليد لعصير البائلين على جثثنا، ولا فرننا يخبز الكعك لملتهمي لحومنا، ولا سرير أبويّ يفترشه غيرهما. ألم تخسر كل شيء بجميع الأحوال؟ بلى! لكن بعض الشر أهون من بعض، وطبعي مزيج من وثنية تكنولوجية وحقد نبيل عنيف.

ولأن مزاجي معتكر، وصدريمثل قمر محمود درويشمريض من الدخان، فكرت أن أغفو قليلا، فاستيقظت أحلامي. وكانت مسلسلا من هزائم متعاقبة، وانكسارات، ومربى فراولة، ومنحدرات زلقة، وظبيات، ولصوص دخلوا منزلي فسرقوا النافذة والقمر والرشفة الأخيرة من فنجان قهوتي. لذا صحوت قليلا، فاستيقظت مثانتي، وعسُر علي العودة إلى النوم بعدها.

الصورة من تصميم: المأمون محمد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة − خمسة =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى