كرتونة
كان ذلك في يوم ماطر بارد، مغمورةٌ شوارع المخيَّم بالوحل و الجوع الكافر و الشقاء و الإيمان الأصفر ، و لا تسلني ما هو الإيمان الأصفر كي لا أسألك عن إيمانك الرمادي ، عند مدخل ذلك الثقب الأسود الذي دُعي مخيماً لليرموك ، كان مسرح الكوميديا . في ساحة الريجة ، عند ذلك الثقب الدودي الواصل بين عالمين و الفاصل بين كونين . عالم الشبعى ينفصل عن عالم الجياع ، كانفصال الأم عن جنينها و لكن تبقى مشيمة تربطهما ببعضهما شاءت الأم ذلك أو أبت ، لا أدري إن كنا جنينا حراما يُغذى من أمه كرهاً ..
وقفت أنتظر أمي تحت الأمطار و هي التي اقتحمت جموع أبناء جنسنا من الجوعى الأشقياء لتحصيل “كرتونة” بها ما يسد الرمق من الطعام ، و هذا الرمق الذي عجز انسان القرن الواحد و العشرين عن سده إلا بهذه الوسيلة، يتبع لعقلكَ الذي تحفَّز لقبلة تطبعها عيناك على رغيف طال فراقه ، هل ستفعلها أمي أم أن الحظ لن يكون هناك مع البنادق ؟ أأبدأ بقطعة على الطريق أم أنتظر العودة إلى البيت؟ كثيرة هي الأسئلة التي طرحتها نفسي الجائعة على نفسي العاقلة ، و أقول و ليس المقام مناسباً إن المحب إذا دنا يمل و لكن ظهر بالبرهان العقلي أن الخبز ليس مما يمللك مكوثه و ليس مما يطاق فراقه .
كما توقظ البعض من نومهم قُبلة الصباح أيقظتني من نشوة التفكير بأنني قد آكل اليوم طعاماً .. طعاماً حقيقياً دراجة اصطدمت بدراجتي فأدركت مدى الاكتظاظ و انتحيت جانباً بعيداً على مقربة من ساتر ترابي بحيث أرى و لا أُرى.
الناس تأتي و تأتي و تأتي و لا شيئ في عيون الناس سوى الحلم ، يُقال أن وجودك يمتد بحسب أحلامك و من قبل قال أحد المناضلين إن أحلامي لا تعرف حدوداً ، و لكنني امرؤٌ مُبتلىً بالقياسات ، هل يمكن أن تقاس الأحلام؟ أتراني أهذي أم أن لهذا أصلاً سايكومترياً ؟ دائرية تماما يضاف إليها متوازٍ للمستطيلات عليه شعارٌ للأمم المتحدة !
يثير الفخر أحياناً أن تحس أن وجودك معروف من قبل البعض ، فكيف بك و أنت تستلم يداً بيد كل أحلامك و ممن؟
من الأمم المتحدة .. يا سادة حُقَّ لنا أن نفخر رغم كل شيء، فصورنا عُرضت في طوكيو و سيدني لا بل و في لوس أنجلوس ، و لو اجتهدنا قليلا لعُرضت في فيغاس ..
و على ذكر فيغاس فهذا السفر لاستلام “الكرتونة” هو مقامرة كبيرة يخشاها رجال المخيم الذين يعيشون تحت الشمس و عند الأمطار فإنهم يستظلون بنسائهم ريثما تكف الأرض عن الدوران ، و من هنا فإن مملكة النساء والأطفال التي انتصبت في ساحة الريجة بلا ملكة سوى أرملة سوداء اسمها الكرتونة قد تودي – و قد فعلت – بحياة بعض العشاق المدنفين ، يسودها جو من التناقض قد يتلفك إن أكثرت من استنشاقه بسبب جزيئات العبثية و اللاجدوى و تركيز الخواء العالية.
وقفت مراقباً لهذا المشهد و كنت قد ركنت دراجتي على حائط أو غربال لست أذكر وجلست على كرسيها معتمراً المطر وضعت سبابتي اليسرى على شفتي، و وجدت طرفا من الجلد، جلد الشفاه اللذيذ مع وخزة من ألم بشري ، هذه دلالة مبشرة.
خرجا فجأة من بين الحشود الغفيرة هي تبكي و هو يمسكها بكلتا يديه ، و هي تبكي بشدة و عليها علائم وعثاء السفر
قد لا يكون ملائماً أن أسمي حالها وعثاء السفر و لكي أقرب الوعثاء إلى ذهنك سأضرب لك مثالا ً ، أرأيت ازدحام الناس على رجم إبليس ؟ أرأيت ازدحام الناس على شراء النسخة الجديدة من الايفون؟أرأيت ازدحام الناس على شباك التذاكر لحفل هيفا أو نانسي ؟ إذاً اضربه بعشرة جياع و تخيل خروج باكيةٍ من هذا الازدحام ..
قالت له : “الكلاب دفشوني”
و لا حاجة لأقول أن فئة الكلاب تشمل كل إنسان موجود في المكان مثلنا يتبع الوسائل الأخلاقية و اللأخلاقية ليبرر حصوله على غايته الكرتونية
قال لها مواسيا : ” ينعن شرفهن ما عاد بدنا أكل، بدنا ” ””خرا ”” خرا؟؟؟ فضلات ؟؟؟إن نتجت فهي ناتجة عن طعام ، حتى فضلاتك لا بد لها من طعام يا صاح ..
زوجان شابان جميلان من زمرة من تزوجوا حديثاً في الحصار ، يمارسان رومنسية جديدة ، يجهد فيها الشاب أن يكون رب الأسرة و لكن يبدو أن للطعام رباً يحميه لا بل و يمنعه عنا أو يمنعنا عنه و منه . هي تبكي و هو يحاول تهدئة روعها ، مشيا إلى الخلف ، يبدو أن عزمهما اليوم قد فُلَّ ، ومضات الكرامة في مشهد الذل هذا إحدى أسوأ الأشياء الممكنة .
مرَّا بمحاذاتي ، لا زالت باكية و لازال ساخطاً مستنزلاً للعنات على كل شيئ بالممكن لعنه ، قلت لنفسي ” لا زال شاباً يافعاً يفكر أن يمثل دور الرجولة على هذه الخشبة ، ما زال يتصور أنه إن لم ينل حصته الكافية من الذل هنا فسيجد طعاما شهياً في بيت الزوجية السعيد الذي بناه مع باكيته ” .
طال غياب أمي – ومن طول الغيبة جاب الغنائم – و بدأ الملل يتسرب إلي مع المطر و لكنني لا أزال أذكر كيف غابا قليلا ليعودا . التبس الأمر علي عندما تجاوزاني أهما هما؟
حركت دواستي دراجتي و تقدمت للأمام لأتاكد، لأنني من معشر قوم لا نُصدِّق حتى نرى ، قطعت الطريق أمامها كلاشيئ يمر أمام شيئ فيرى و لا يُرى ، يالسعادتي إنهما ذاتهما ..
يمشيان مبتسمين بوجوه جديدة ، أظنها غسلت وجهها بالماء أو أن الماء غسل وجهه النرجسي بدموعها فزال عنها الحزن بكلمات زوجها و احتضانه لها و كانت المكابرة ..
أمسكها بيدها حتى أوصلها إلى النقطة صفر ، حيث لا مجال لوضع عاشقين قدميهما معاً ، عند بدء أرض المحشر على أطراف مملكة النساء . و عاد و تنحى جانباً كما أنا فاعل .
أرهقني المشهد برمته و زاغ بصري في كل شيء و نهضت عن كرسي دراجتي الذي أوجع عظامي النافرة و جلست مقرفصاً كيلا أرى مزيداً من الوجوه بأفواهها الفاغرة و كي لا أصدم تلك المقل الشاخصة النافرة . و أغمضت على قطرة من بحر سبحنا به طويلاً .
أيموت الناس مكتظين على رجم إبليس؟
لو كنت إبليساً أفسأجد خيراً من هذا المقام للعيش؟
ألا يا راجمي إبليس هلموا .. فهاهنا لدينا مخيم .
أنهيت عبرتي التي لا أعلم إن كانت طويلة و رفعت نظري من قرفصائي فإذا بها من البعيد آتية ..
الشمس أشرقت أم أن هذي أمي آتية تحمل “كرتونة”؟
تكاد تتساوى أوزانهما في زمن الجفاف ، و لكن أمي هي ميكائيل تلك السني العجاف . تهللت و ارتبكت و احمررت و اصفررت و خجلت بنفسي ، أهو احساس بالذنب أنك ستأكل بوجود الجياع ؟
ركضت نحو أمي ناسيا دراجتي خلفي ، و لأواسي رجولتي قلت لها بفحولة عنترية هاتي يما عنك – طبعا مع كلام غير مفهوم يدور عادة بين الابن و أمه – حملت أحلامي الكبيرة على كتفي ، و يالسعادتي ؛ أحلامي أضافت عليها الأمم المتحدة عبوة من زبدة الفستق … سنصبح برجوازيين قريبا يا أهل مخيم اليرموك..
نسيت على طريق البيت صديقيَّ العاشقين و نسيت كل شيئ أو أنني تناسيت .
في ذكرى الحب، يقال أن قديسا زنى بابنة إمبراطور فكان عيداً ، تذكرت كيف زنى بنا القهر و الجوع و لكن بلا أعياد ..
لكل أم في مخيم اليرموك … أحبك .