ذاكرة مكان

حين تزحف الصحراء إلى داخلنا

في التلفاز، يتحدث أحد المحللين السياسيين عن التصحر السياسي وأثره على مستقبل البلاد، وفي حين يتبادل الحديث مع المذيع الذي يحاوره، يبدأون بتقاذف كلمة التصحر التي ما لبثت تقلقني، إلى أن قمت بتغيير القناة، كي أتخلص من ذلك القلق.

لكن ولعلمي بأن لا شيء يقلقك من الفراغ، بل يعني أنه على أشد الارتباط بشخصيتك أو بمحيطك، بدأت أفكر ما بيني وبين نفسي لماذا أقلقني ذلك المصطلح “التصحر”.

أطفأت التلفاز وخرجت إلى وجهتي، فمررت بالحديقة المجاورة لمنزلنا وإذ بها فقدت شجرة جديدة، حيث قام أحدهم بقطعها بغية استخدامها للتدفئة، وهو مشهدٌ يتكرر بشكلٍ شبه يومي، بعد أن فقدت أغلب المناطق الخضراء في منطقتنا أشجارها حتى تحولت وجهة الناس إلى الحدائق. في البداية كنت أعد الشجرات التي تم قطعها، واحدة اثنتان ثلاثة … إلى أن تحولت إلى إحصاء الأشجار التي بقيت على قيد الحياة، سبعة ستة خمسة، وها هي اليوم أربعة. نعم أربعة أشجار فقط تفصلنا عن تصحر الحديقة، وتحولها إلى مجرد منطقة جرداء تتماهى مع المحيط والواقع السياسي للبلاد.

أستقل سيارة أجرة، فإذا بالسائق يتمسك بمقود السيارة وهو يتحدث عن فقدانه لأغلب ممتلكاته بعد بيعها نتيجة ضيقته المادية، وأن هذه السيارة هي الشيء الوحيد الذي تبقى له، بعد أن باع منزله وسط المدينة منذ أشهر وانتقل إلى الأطراف.

أترجل من السيارة، فإذا بطفلٍ يطلب أن أشتري منه، وهو مشهد لم يعد يثير العطف بداخلي بقدر ما يثير الإحساس بالقلق، فأجاوبه بنبرةٍ حادة “وإنت وين مدرستك، لازم بهالوقت تكون بالمدرسة”.

فيجيبني:

“يا خالتو مدرسة شو، ما انا تركتها من زمان، من وين بدي عيش وأدرس، المدرسة ما بتطعمي خبز”

جواب لا تعليق أملكه بحقه، فأتابع مسيري دون أن أتفوه بكلمة.

في الشارع وجوه الناس تشي بمضامينها، الجميع يُشعرك بأنه قلق، وكأن الجو العام الصحراوي لا يغري ببذر مشاعرك في تربته، ما يدفعك لقطع مسافة سيرك دون مبادلة أحد بابتسامة أو بوجه (بشوشٍ) على الأقل، ومن ذاك الذي يزرع في الصحراء.

فجأة يصرخ طفل، يليه صراخ والده موبخاً طفله: “قلتلك تمسك إيد إمك ما بتقنع، يلا إمشي خلصنا وبلا بكى”.

في الصحراء الجميع على عجل، فالمارة يريدون تجاوز الصحراء بأسرع وقتٍ ممكن، قبل أن يصيبهم مكروهٍ ما، ولا يمكنك أن تتدخل بسلوك أحدهم، كأن توجه ملاحظة للأب حيال تصرفه مع طفله، ما قد يفتح عليك باب جهنم، أو على أقل تقدير سيقول لي: “ما دخلك”.

في الصحراء لا رفاهية لأحد للنقاش والمسايرة.

أدخل محل صديقتي التي فقدت خطيبها منذ عدة سنوات في محاولته اللجوء إلى أوروبا، حيث ابتلعه البحر، وابتلعتها الكآبة، إلى أن باتت تخشى الارتباط مجدداً.

في الصحراء حتى البحر قد يغدو امتداداً للصحراء أو بالأحرى لرمالها المتحركة.

وللمفارقة السيئة أن صديقتي فقدت والدها منذ الصغر، بعد أن تم اعتقاله في سجن تدمر، وفقدت خطيبها في البحر، وكأن المقولة المنسوبة لطارق بن زياد تلاحقها وإن بتغيير شكل الكلمات: “البحر من أمامكم، والصحراء من ورائكم”.

أمام محلها قد تمر عشرين فتاة حتى يمر شاب واحد، فصحراء الحرب ابتلعت الكثيرين، وللأسف دون أية ثمار.

بجوار محلها، فتاةٌ تهيء المحل للافتتاح لبيع الإكسسوارات، بعد أن كان مكتبة لبيع الكتب، أغلقها صاحبها على أثر خسارته، ومن ذا الذي يشتري الكتب في أيامنا هذه، وقد باتت ترفاً وسط بحثك عن نجاتك الجسدية.

في الصحراء يزداد الناس تجملاً واستهلاكاً، كي يحاولوا إيهام أنفسهم أنهم بخير، وكي ينسوا قلقهم الوجودي، فتكثر محلات التجميل، ومقاهي الترفيه التي يعني انتشارها عكس ما يوحي عنوانها. ويزداد انتشار ظواهر البحث عن المعجزات، فتكثر دورات التنمية البشرية والبحث عن الذات، وتحقيق النجاة تحت مسمى “تحقيق النجاح”.

شاركت في إحدى تلك الدورات، لكني خرجت بكآبةٍ أكبر، فما معنى أن تتسلح بكل ما تحتاجه من اندفاع لفعل شيءٍ ما وأنت وسط الصحراء.

فبعد أن كنت ألوم نفسي قليلاً على تقصيرها، وكنت أعول على تحفيز الذات للانطلاق، اكتشفت أن المشكلة ليست داخلي، بل داخل هذا العالم الصحراوي.

ألتفتُ إلى صديقتي التي بالكاد تتفوه بالكلام، أجلس قليلاً، أحدثها عن الطعام الذي أنوي تحضيره اليوم على الغداء، ثم عن نادي الرياضة الذي أريد الذهاب إليه مساءً علني أفرغ قليلاً من التوتر بالتعب الجسدي، إلى أن أصمت عندما سألتني عما أريد فعله مساءً، إذ لا مخطط لدي لهذا المساء، ولا رغبة بشيء.

أجري تفقداً ذهنياً لأصدقائي في مخيلتي، علني أكتشف أحداً لرفقته أو رفقتها في المساء:

سلمى منشغلة بامتحاناتها، سامر منشغل بعمله طوال اليوم، طارق منزوي في منزله ولا يرغب برؤية أحد، علياء وحيدة مع والدتها المريضة بعد أن سافر جميع إخوتها وبقيت المعيلة الوحيدة لها.

أما صديقتي صاحبة المحل، فقد بتت أضج من اكتئابها، وإن كنت قادرة على رؤيتها في محلها، حيث لا مجال لتلج داخل كهفها وتُخرج مصائبها أمامي، إلا أن انفرادنا في المساء قد يعني أني سأتحول إلى طيبيةٍ نفسية عليها أن تستقبل الحديث عن المصائب بكل صدرٍ رحب.

أغادر المحل، أكمل يومي كما رسمت له، إلى أن يحط المساء رحاله في منزلي، وأختار البقاء وحيدة، فلا قدرة لي على استقبال أحد، فمجرد أن يفتح أحدهم مكامن شخصيته، حتى أبدأ بالشعور وكأن شيئاً ما يسحبني إلى الهاوية أكثر، وكأنك وسط الرمال المتحركة.

أجلس وحيدة، أقفل باب المنزل، أسدل الستائر، وأطفئ هاتفي كي لا تبتلعني الصحراء.

في الصحراء عليك أن تحمي نفسك في ظل شجرةٍ ناجية، أو في ظل خيمةٍ مضيئة، تحاول أن تعيش في تلك البقعة دون أن ترمي ثمارك في الخارج الأجرد كيفما اتفق. عليك أن تنتظر، أن تعتني بثمارك وتنتظر، إلى أن تعود المياه ويحين وقت الزراعة الطبيعي.

أو أن تزرعها بالقرب منك بحيث تستطيع حمايتها. أن تختار بعنايةٍ فائقة مكاناً مناسباً لها، وتختار ما ينمو في الليل منها وينكمش في النهار، متذكرةً جملةً علقت برأسي من فيلمٍ وثائقي تقول: “حتى في الصحراء تنمو الكائنات الحية إن هي أجادت التأقلم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × واحد =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى