ذاكرة حصار

“قُرْصانٌ يغرقُ على بلاطِ المُخيم”

الساعة العاشرة مساءً كنت قد خرجت لتوي من منزل صديقي ميمماً وجهي شطر البيت الذي كنت أقطنه بالقرب من دوار فلسطين، بعدما أتممت عملية شحن الهاتف واللابتوب بالكهرباء ومعِدتي بالفجل المقلي اللذيذ المُعد على طريقة الحصار. كان عليّ أن أسير تسعمئة خطوة منتظمة حتى أصل إلى المنزل، الظلام حالك الأزقة خالية من كل شيء عدا  أرواح سكان البيوت الطائفة حول بيوتهم التي هجروها من شدة القصف.. ضباب بِلونِ اللبن يملأ الشوارع، الجو ملائم لتدخين سيجارة دون أن يراني أحد ويندفع نحوي كجلمود صخر يتجه نحو بيضة ليستجدي بضع سحبات من هذا السم القاتل، أصوات آهات أم كلثوم تصدر من راديو  ثُبِتَ على شرفة منزل تجاوزته بقرابة العشرين خطوة. اجتزت الشارع المظلم ودخلت آخر أكثر ظُلمة وكآبة ابتعدت عن المنزل وأصبح من الصعب سماع تلك الآهات، لكن هناك شيء ما غريب في هذا الشارع إني أسمع آهات وأنات مرةً أخرى لكنها آهات دون ألحان أحمد رامي وعود القصبجي، إنه إنسان يتألم!! توقفت محاولا تحديد مكان هذا الصوت وبدأت أدور حول نفسي بسرعة كبيرة كإعصار أو كصوفي زاهد بلغ أعلى مراتب النشوة واستطعت أن أحدد مكان الصوت إنه من ذلك المنزل في منتصف الشارع تقدمت نحوه مضطربا مذعورا كان من الصعب تحديد إن كان الصوت صوت رجل أو امرأة لكن كان من الواضح أن هذا الإنسان يتألم.

وصلت إلى باب المنزل المطلي باللون الأسود المقيت، الجدران كُتِب عليها “حج مبرور وسعي مشكور” “حرية” “من هنا مر الجيش الحر”.

من هنا.. من هنا..؟ قلت هذا بصوت خافت.. أجاب رجل: مشان الله.. مشان الله.. وصرخ بثالثة مشان الله وصمت وكأن حِبالهُ الصوتية تقطعت، وبردة فعل غبية طرقت الباب قائلاً: افتح.. افتح.. يا إلهي ماذا أفعل أنا!! تراجعت عدة خطوات ورحت أركلُ الباب حتى فُتِح وبسرعة خاطفة وعلى طريقة ال”CIA” وال”FBI” وجهت ضوء “مصباح يدوي” على الممر فثُبِتت قدماي في الأرض كجذور شجرة زيتون فلسطينية وجِدت منذ الأزل وباقية حتى القيامة.

كان شاباً في مقتبل العمر ممدداً  على جنبه الأيسر يُخيّلُ لمن يراه أنها زنوبيا على سريرها الملكي وضِعَ في قدمه اليسرى عصى ثُبِتت بأشرطة طبية، عينه اليمنى مغطاة بضماد جروح، كان يشبه القراصنة وكان ثمة مياه تملأ الممر، مياه تسللت حتى نخاع عظمه مصدرها صنبور خلف الباب مباشرةً.

أشار لي بيده اليمنى فهمت من إشارته أنه يقول هَيْا اقترب تعال وأخرجني من هذه المياه الباردة، سارعت إليه فتعثرتُ بعُكازٍ لم انتبه له وكاد أن يرتطم رأسي بالجدار، اخذت يده وقلت : قف.. قف.. فصرخ قائلاً: مش قدران مشان الله، كنت ما إن أضع يدي على مكان ما في جسده حتي يصرخ ويتألم، كان مثل اللغم الحربي لا استطيع تحريكه حتى لا ينفجر صارخاً من شدة الألم.

بعد جهد وعناء استطعت إدخاله إلى الغرفة المجاورة للممر، في الغرفة تلفاز تراكم عليه الغبار وضِعَ على طاولة بالية على الجدار الايمن للغرفة، ثُبِتت قطعة بطول السبابة من اللدات المضيئة لا تكفي لإضاءة هذه الغرفة الموحشة وعلى الطرف الأيسر ستائر مهترئة تغير لونها من الأبيض الناصع إلى الأسود المقيت بسبب دخان المدفئة المثبتة في منتصف الغرفة.

طلبت منه الانتظار ريثما آتي بالمساعدة، وسرعان ما عدت إليه مع اثنين من أصدقائي فأزلنا عنه ثيابه المبللة بالمياه وأبدلناها بأخرى، وقررنا اصطحابه إلى منزل صديق لنا كنا نسميه “حاتم الطائي” لشدة كرمه، تولى صديقاي مهمة حمله وحملاه كما تُحملُ الأباطرة، كان يأنّ ويتألم بِلُغةٍ غريبة لم أسمعها من قبل وأقسم أنها لم ولن تكن لُغةً لشعب من شعوب الأرض، إنها لغة المستضعفين المسحوقين المنكسرين المعذبين في الأرض إنها لغة الحصار يا سادة، لغة يجهلها كثيرون ونتقنها نحن.

وصلنا إلى البيت واستقبلنا الطائي ببشاشة غير مصطنعة ودون أن نطلب منه شيء أو ننبس ببنت شفة وعلى الفور جاءنا “بخبز العدس” و”السبانخ” وطلب منا أن نأكل بعد عبارته التي اشتهر بها “جود من الموجود” فأثرنا القرصان على أنفسنا، فأكل حتى شبع، وتعبير شبع هنا لا يصف الحالة فشبع في الحصار أي أن الطعام نفد، ما كان لأحد أن يشبع في الحصار وما قدمه الطائي هو بعض ما ادخره  لطفليه حتى صباح اليوم التالي.

قدم الطائي لنا الشاي وهو يجهل حتى تلك اللحظة من هذا القرصان الذي أتينا به إليه وفي الحقيقة حتى نحن كنا نجهل اسمه ولا نعلم عنه شيئا، فبدأت الحديث قائلا: ها.. هل تدخن لدي سجائر، هذه سيجارة “قراميع” اشتريت اليوم هذه السجائر من سوق “العروبة” خذ لا تخف هي خالية من ورق الملوخية والنعناع والباذنجان.

القراميع: هي جمع قرموعة والقرموعة في الكوكب المحاط بالحواجز والدبابات والقناصات هي عقب السيجارة، كان المحاصرون يجمعون تلك الاعقاب ويفرغون ما تبقى من تبغ بداخلها ليحصلوا على سيجارة.

ها.. أخبرني من أنت.. وما حالك هذا.. ومن ثم ما تلك العصى التي كنت تضعها على قدمك؟!

اسمي محمد من بلدة “البويضة” نزحتُ إلى هنا عُقب اقتحام قوات النظام للبلدة.. تعرضت للإصابة بقدمي اليسرى بثلاث طلقات، وعيني لا أدري ما نوع الشظية التي دخلت بها، كان هذا أثناء انسحاب الثوار من البلدة، لقد كنت مقاتلاً في صفوف الثوار.. وصمت ليرتشف الشاي.

وماذا عن أهلك أين هم كيف لهم أن يتركوك وأنت على هذا الحال ؟ سأل الطائي باستغراب.. أهلي يعيشون في إحدى المدارس في دمشق وأنا اتحدث معهم بشكل غير منتظم لأني لا أملك جوالاً

حسناً.. لكن ما تلك العصى التي كانت على قدمك؟؟ لم أكمل هذا الجملة حتى انفجر القرصان ضاحكاً وقال: وضعتها أنا ظناً مني أنها ستعينني على السير.. كانت هذه تجربة فاشلة، أرأيت ذلك الصنبور المتدفق بالمياه؟ لم يكن يتدفق بالمياه من قبل أنا اسكن هذا المنزل منذ شهر ولم أفكر في يوم من الأيام أن اتفحصه لأعلم إن كان مغلقا أم مفتوحا ففي الحالتين لا يوجد مياه. لكن لا أعلم كيف تدفقت المياه إليه في هذه الليلة وأردت أن اغلقه قبل أن تصل المياه إلى غرفتي، فالبالوعة قد سددتها بالإسمنت منذ أسبوع، في الحقيقة لم أكن أنا من أغلقها بل طلبت هذا من شاب كان يبحث عن الطعام بالقرب من منزلي بعدما رأيت جرذا بحجم الكرة يخرج منها قال هذا وهو يصف حجم الجرذ بيديه.

سارع النظام  منذ بدء الحصار إلى قطع المياه عن المناطق المحاصرة، لم يكتف بالقصف والتدمير والتجويع كان يريد أن نموت من العطش أيضاً، لم يدخر أي وسيلة لقتلنا.

استمر الحديث ساعة وبدأ النعاس يطغى على الحضور وشعر القُرْصان بهذا فقال: عليّ أن أرحل الآن، فقاطعه الطائي قائلاً: لا.. لن تخرج ستبيت عندي اليوم وبدأ يقسم على هذا، إلا أن القرصان رفض وأصرَ على الذهاب إلى منزله، فحمله صديقاي ورافقنا الطائي أيضاً.

في صبيحة اليوم التالي ذهب الطائي إليه برغيف من خبز  العدس ورجع بمثله في المساء، ولما ذهب برغيف ثالث في اليوم الثالث كان القرصان قد فارق الحياة على فراشه، لا ندري كيف حدث هذا، هل كان من الجوع أم العطش أم البرد أم القهر أم العذاب أو لعله من ألم الإصابة لكن هذا كله غير قادر على قتلنا.

إذن هناك شيء آخر قد قتله، هو الشيء الوحيد القادر على فعل هذا إنه “الخذلان”.. الخذلان وحده هو الذي قتله وما زال حتى هذا اليوم يقتلنا.

لم نضّرِم النار في جثة القُرْصان بعد وضعها بقارب صغير كما يُفعل بالقراصنة عادةً، كان لمحمد مزايا تجعله يعلو على غيره من القراصنة، تعرض محمد لأقسى أنواع العذاب والقهر قبل أن ينال رتبة القُرْصان، لم ينلها إلا بعد فقدِ قدمٍ وعين، ما تعرض له محمد ما كان ليقدر عليه “جاك سبارو” و”باربوسا” في سلسلة الأفلام” الخيالية” الشهيرة قراصنة الكاريبي.

كان علينا أن ندفنه بطريقة تليق بجلالة موته، ولو استطعنا لكتبنا على قبره هنا يرقدُ القُرْصانُ البطل، قُرْصانُ الحرّية، قُرْصان الشجاعة والإيمان، قُرْصان الحب والحصار،” قُرْصان مخيم فلسطين دفناه في تربة الشهداء التي استشهدت هي الأخرى بعد قصفها. فكتب له الشهادة مرة أخرى، وكتب لقاتليه الخزي ألف مرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × اثنان =

زر الذهاب إلى الأعلى